ولما كانت كل معاملة تتكون في الحقيقة من خمسة أركان أساسية ، وهي عبارة عن : المشتري ، والبائع ، والمتاع ، والثمن ، وسند المعاملة أو وثيقتها ، فقد أشار الله سبحانه إلى كل هذه الأركان ، فجعل نفسه مشتريا ، والمؤمنين بائعين ، وأموالهم وأنفسهم متاعا وبضاعة ، والجنّة ثمنا لهذه المعاملة. غاية ما في الأمر أنّه بيّن طريقة تسليم البضاعة بتعبير لطيف ، فقال : (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) وفي الواقع فإنّ يد الله سبحانه حاضرة في ميدان الجهاد لتقبل هذه البضاعة ، سواء كانت روحا أم مالا يبذل في أمر الجهاد.
ثمّ يشير بعد ذلك إلى سند المعاملة الثابت ، والذي يشكل الركن الخامس فيها ، فقال: (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ).
إذا أمعنا النظر في قوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) يتّضح جليا أنّ الله تعالى يشتري الأرواح والجهود والمساعي التي تبذل وتصرف في سبيله ، أي سبيل إحقاق الحق والعدالة ، والحريّة والخلاص لجميع البشر من قبضة الكفر والظلم والفساد.
ثم ، ومن أجل التأكيد على هذه المعاملة ، تضيف الآية : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) أي أنّ ثمن هذه المعاملة وإن كان مؤجلا ، إلّا أنّه مضمون ، ولا وجود لأخطار النسيئة ، لأنّ الله تعالى لقدرته واستغنائه عن الجميع أوفى من الكل بعهده ، فلا هو ينسى ، ولا يعجز عن الأداء ، ولا يفعل ما يخالف الحكمة ليندم عليه ويرجع عنه ، ولا يخلف وعده والعياذ بالله ، وعلى هذا فلا يبقى أي مجال للشك في وفائه بعهده ، وأدائه الثمن في رأس الموعد المقرر.
والأروع من كل شيء أنّه تعالى قد بارك للطرف المقابل صفقته ، ويتمنى لهم أن تكون صفقة وفيرة الربح ، تماما كما هو المتعارف بين التجار ، فيقول عزوجل : (فَاسْتَبْشِرُوا (١) بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
__________________
(١) فاستبشروا مأخوذة من مادة البشارة ، والتي أخذت في الأصل من البشرة ، أي وجه الإنسان ، وهي إشارة إلى آثار الفرحة والسرور التي تبدو بوضوح على وجه الإنسان.