تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (١). فلم يكن لهم تعلّق بما كان في أيديهم سابقا ، ولا يصيبهم الغم والحزن في اليوم الذي سيفارقونه ، فإنّ روحهم أكبر ، وفكرهم أسمى من أن تؤثر فيهم مثل هذه الحوادث في الماضي والمستقبل.
على هذا الأساس فإنّ الأمن والطمأنينة الواقعية هي الحاكمة على وجودهم ، وعلى حدّ قول القرآن : (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) (٢) ، وبتعبير آخر : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٣).
والخلاصة هي أنّ الحزن والخوف عند البشر يتولّدان عادة من حبّ الدنيا ، فمن الطبيعي أن لا يصيب هؤلاء الذين نفضوا أيديهم وقلوبهم من حبها خوف ، أو حزن.
كان هذا هو البيان الاستدلالي للمسألة ، وقد يعرض هذا الموضوع أحيانا ببيان آخر يتخذ شكلا عرفانيا بهذه الصورة : إنّ أولياء الله غارقون في صفات جماله وجلاله ، وذائبون في مشاهدة ذاته المقدسة إلى الحد نسوا كل شيء غيره ، ومعلوم أنّ الغم والحزن والخوف والوحشة تحتاج حتما إلى تصور فقدان وخسارة شيء ما ، أو مواجهة عدو أو موجود خطر ، فمن لم يجعل لغير الله مكانا في قلبه ولا طريقا الى فكره ، ولا يقبل في روحه إله غيره ، كيف يمكن أن يغتم ويخاف ويستوحش؟
لقد اتّضحت ممّا قلناه هذه الحقيقة أيضا ، وهي أنّ المقصود من الغموم هي الغموم المادية والأخاويف الدنيوية ، وإلّا فإنّ وجود أولياء الله مملوء بالخوف والخشية .. الخوف من عدم أداء الواجبات والمسؤولية. والأسف والحسرة على أن يكون قد فاتهم شيء من الموفقية ، ولهذا الخوف والحسرة صفة معنوية ، فهما أساس تكامل وجود الإنسان ورقيّه ، بعكس الخوف والحزن الدنيويين فهما
__________________
(١) الحديد ، ٢٣.
(٢) الأنعام ، ٨٢.
(٣) الرعد ، ٢٨.