ويستفاد من بعض الرّوايات أن تحريم القتال في هذه الأشهر الحرم ، كان مشرّعا في الديانة اليهودية والمسيحية وسائر الشرائع السماوية ، إضافة الى شريعة إبراهيم الخليل عليهالسلام. ولعلّ التعبير ب (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) إشارة الى هذه اللّطيفة ، أي أنّ هذا التحريم كان في أوّل الأمر على شكل قانون ثابت : ثمّ تقول الآية : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).
إلّا أنّه لمّا كان تحريم هذه الأشهر قد يتخذ ذريعة من قبل العدو لمهاجمة المسلمين فيها، فقد عقبت الآية بالقول : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) فبالرغم من أنّ هؤلاء مشركين والشرك أساس التشتت والتفرقة ، إلّا أنّهم يقاتلونكم في صف واحد ، «افة» فينبغي عليكم أن تقاتلوهم كافة ، فذلك منكم أجدر لأنّكم موحّدون فلا بدّ من توحيد كلمتكم أمام عدوكم ولتكونوا كالبنيان المرصوص.
وتختتم الآية بالقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
وفي الآية الثّانية ـ من الآيتين محل البحث ـ إشارة الى إحدى السنن الخاطئة في الجاهلية ، وهي سنة النسيء «تغيير الأشهر الحرم» إذ تقول الآية : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ففي أحد الأعوام يقرّرون حليّة الشهر الحرام ويحرمون أحد الأشهر الحلال للمحافظة على العدد أربعة (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ)!
فهؤلاء يضيعون بتصرفهم هذا فلسفة تحريم الأشهر ، ويتلاعبون بحكم الله بحسب ما تمليه عليهم أهواؤهم ، والعجيب أنّهم يرضون عن عملهم ، وفعلهم هذا كما تقول الآية : (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ).
فهم يغيرون الأشهر الحرم ويبدلونها ، ويعدّون ذلك تدبيرا لحياتهم ومعاشهم ، أو يتصوّرون أنّ طول فترة إيقاف القتال يقلل من حماس المقاتلين فلا بدّ من إثارة الحرب ....