فى قرى مصر كان يصنع له بكل قرية دكة يضرب عليها سرادقه والعساكر من حوله فكان يقيم فى القرية يوما وليلة [ق ١٠٨ ب] فمر بقرية يقال لها طاء النمل فلم يدخلها لحقارتها. فلما تجاوزها المأمون خرجت إليه عجور يعرف بمارية القبطية صاحبة القرية وهى تصيح فظنها المأمون مستغيثة متظلمة ، فوقف لها وكان لا يمشى أبدا إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس ، فذكروا له أن القبطية قالت أمير المؤمنين ينزل فى كل ضيعة ويتجاوز ضيعتى ، والقبط تعايرنى بذلك ، وأنا أسأل فضل أمير المؤمنين أن يشرفنى بحلوله فى ضيعتى ليكون لى الشرف والعقبى ، ولا يشمت الأعداء بى وبكت بكاءا شديدا ، فوقف لها المأمون وثنى عنان فرسه إليها ونزل عندها فجاء ولدها إلى صاحب المطبخ وسأله كم يحتاج من الغنم والدجاج والفراخ والسمك والتوابل والسكر والعسل والمسك والشمع والفاكهة والعلوقة وغير ذلك مما جرت به العادة ، فأحضرت جميع ذلك وزيادة وكان مع المأمون أخوة المعتصم وولده العباس وأولاد أخيه الواثق والمتوكل ويحيى بن أكتم (١) والقاضى أحمد بن داود (٢) ، فأحضرت لكل واحد منهم ما يخصه على انفراده ، ولم تكل أحدا منهم ولا من [ق ١٠٩ أ] القواد إلى غيره ، ثم أحضرت إلى المأمون من فاخر الطعام ولذيذة شيئا كثيرا حتى استعظم ذلك ، فلما أصبح وقد عزم على الرحيل حضرت إليه ومعها عشر وصايف ، مع كل وصيفة طبق ، فلما عاينها المأمون من بعد قال لمن بين يديه قد جادتكم القبطية بهدية الريف الكافح والصحناه والصبر.
فلما وضعت ذلك بين يديه فإذا فى كل طبق من الذهب شىء كثير ، فاستحسن ذلك منها وأمرها بإعادته ، فقالت : لا والله لا أفعل ذلك ، فتأمل المأمون الذهب فإذا هو ضرب عام واحد كله ، فقال هذا والله أعجب وربما يعجز بيت ما لنا عن مثل ذلك ، فقال يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا فقال لها أن بعض ما صنعته كفاية فردى ما لك بارك الله فيك وفى مروتك ،
__________________
(١) هو يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن الأسيدى أبو محمد المروزى القاضى الفقيه ، روى عن الفضل بن موسى السينانى وابن المبارك وعبد الله بن إدريس وعيسى بن يونس وعبد العزيز بن أبى حازم وجرير وابن أبي عيينة والقطان ووكيع ، روى عنه الترمذى وابن ماجة والبخارى وعلى بن حشرم وأبو داود السنجى وأبو حاتم وإسماعيل القاضى وإبراهيم بن أبى طالب ومحمد بن إسحاق السراج ، ثقة مات سنة ٢٤٠ ه.
(٢) هو ابن عبيد الله بن يزيد أبو جعفر بن أبى داود بن المناوى ، رو «عن حفص بن غياث وأبى أسامة وروح ابن عبادة وأبى بدر شجاع بن الوليد وأبى النضر هاشم بن القاسم ووضاح بن يحيى النهشلى وإسحاق بن يوسف الأرزق وعبد الوهاب الخفاف وغيرهم ، ثقة مات سنة ٢٧٢ ه.