ولم يعاندوا ، ولم يستكبروا ، ودلّ عليه قولهم : (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) مع ما يسّر الله لهم من قبولهم الدّعوة وامتثالهم الأمر ، فإنّه من تمام المنّة المحمود عليها ، وهذا التّيسير هو الذي حرّمه المكذّبون المستكبرون لأجل ابتدائهم بالتّكذيب والاستكبار ، دون النّظر والاعتبار.
وجملة (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) في موضع الحال من الضّمير المنصوب ، أي هدانا في هذه الحال حال بعدنا عن الاهتداء ، وذلك ممّا يؤذن بكبر منّة الله تعالى عليهم ، وبتعظيم حمدهم وتجزيله ، ولذلك جاءوا بجملة الحمد مشتملة على أقصى ما تشتمل عليه من الخصائص التي تقدّم بيانها في سورة الفاتحة [٦].
ودلّ قوله : (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) على بعد حالهم السّالفة عن الاهتداء ، كما أفاده نفي الكون مع لام الجحود ، حسبما تقدّم عند قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) والنبوءة الآية في سورة آل عمران [٧٩] ، فإنّهم كانوا منغمسين في ضلالات قديمة قد رسخت في أنفسهم ، فأمّا قادتهم فقد زيّنها الشّيطان لهم حتى اعتقدوها وسنّوها لمن بعدهم ، وأمّا دهماؤهم وأخلافهم فقد رأوا قدوتهم على تلك الضّلالات. وتأصّلت فيهم ، فما كان من السّهل اهتداؤهم ، لو لا أن هداهم الله ببعثة الرّسل وسياستهم في دعوتهم ، وأن قذف في قلوبهم قبول الدّعوة.
ولذلك عقبوا تحميدهم وثناءهم على الله بقولهم : (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) فتلك جملة مستأنفة ، استئنافا ابتدائيا ، لصدورها عن ابتهاج نفوسهم واغتباطهم بما جاءتهم به الرّسل ، فجعلوا يتذكّرون أسباب هدايتهم ويعتبرون بذلك ويغتبطون. تلذذا بالتّكلّم به ، لأن تذكّر الأمر المحبوب والحديث عنه ممّا تلذّ به النّفوس ، مع قصد الثّناء على الرّسل.
وتأكيد الفعل بلام القسم وبقد ، مع أنهم غير منكرين لمجيء الرسل : إما لأنّه كناية عن الإعجاب بمطابقة ما وعدهم به الرّسل من النّعيم لما وجدوه مثل قوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) [الزخرف : ٧١] وقول النّبيء صلىاللهعليهوسلم : قال الله تعالى : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». وإمّا لأنّهم أرادوا بقولهم هذا الثّناء على الرّسل والشّهادة بصدقهم جمعا مع الثّناء على الله ، فأتوا بالخبر في صورة الشّهادة المؤكّدة التي لا تردّد فيها.
وقرأ ابن عامر : (ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) ـ بدون واو قبل (ما) ـ وكذلك كتبت في المصحف الإمام الموجّه إلى الشّام ، وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملة مفصولة عن التي