وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤))
جاءت أغراض هذه السّورة متناسبة متماسكة ، فإنّها ابتدئت بذكر القرآن والأمر باتّباعه ونبذ ما يصدّ عنه وهو اتّباع الشّرك ؛ ثمّ التّذكير بالأمم التي أعرضت عن طاعة رسل الله ، ثمّ الاستدلال على وحدانية الله ، والامتنان بخلق الأرض والتّمكين منها ، وبخلق أصل البشر وخلقهم ، وخلل ذلك بالتّذكير بعداوة الشّيطان لأصل البشر وللبشر في قوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٦]. وانتقل من ذلك إلى التّنديد على المشركين فيما اتّبعوا فيه تسويل الشّيطان من قوله : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) [الأعراف : ٢٨] ، ثمّ بتذكيرهم بالعهد الذي أخذه الله على البشر في قوله : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأعراف : ٣٥] الآية. وبأن المشركين ظلموا بنكث العهد بقوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) [الأعراف : ٣٧] وتوعدهم وذكّرهم أحوال أهل الآخرة ، وعقب ذلك عاد إلى ذكر القرآن بقوله : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) [الأعراف : ٥٢] وأنهاه بالتّذييل بقوله : (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الأعراف : ٥٣].
فلا جرم تهيأت الأسماع والقلوب لتلقي الحجّة على أنّ الله إله واحد ، وأنّ آلهة المشركين ضلال وباطل ، ثمّ لبيان عظيم قدرته ومجده فلذلك استؤنف بجملة (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) الآية ، استئنافا ابتدائيا عاد به التّذكير إلى صدر السّورة في قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) [الأعراف : ٣] ، فكان ما في صدر السّورة بمنزلة المطلوب المنطقي ، وكان ما بعده بمنزلة البرهان ، وكان قوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) بمنزلة النّتيجة للبرهان ، والنتيجة مساوية للمطلوب إلّا أنّها تؤخذ أوضح وأشد تفصيلا.
فالخطاب موجّه إلى المشركين ابتداء ، ولذلك كان للتّأكيد بحرف (إنّ) موقعه لرد إنكار المشركين انفراد الله بالرّبوبية. وإذ كان ما اشتملت عليه هذه الآية يزيد المسلمين بصيرة بعظم مجد الله وسعة ملكه ، ويزيدهم ذكرى بدلائل قدرته ، كان الخطاب صالحا لتناول المسلمين ، لصلاحية ضمير الخطاب لذلك ، ولا يكون حرف (إن) بالنّسبة إليهم سدى ، لأنّه يفيد الاهتمام بالخبر ، لأنّ فيه حظا للفريقين ، ولأنّ بعض ما اشتمل عليه (ما) هو بالمؤمنين أعلق مثل (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٥٥] وقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] وبعضه بالكافرين أنسب مثل قوله : (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف : ٥٧].