وقد جعل المخبر عنه الرب ، والخبر اسم الجلالة : لأن المعنى أنّ الرب لكم المعلوم عندكم هو الذي اسمه الدال على ذاته : الله ، لا غيره ممن ليس له هذا الاسم ، على ما هو الشّأن ، فهي تعريف المسند في نحو : أنا أخوك ، يقال لمن يعرف المتكلّم ويعرف أنّ له أخا ولا يعرف أنّ المتكلم هو أخوه. فالمقصود من تعريف المسند إفادة ما يسمّى في المنطق بحمل المواطاة ، وهو حمل (هو هو) ولذلك يخيّر المتكلّم في جعل أحد الجزأين مسند إليه ، وجعل الآخر مسندا ، لأنّ كليهما معروف عند المخاطب ، وإنّما الشّأن أن يجعل أقواهما معرفة عند المخاطب هو المسند إليه. ليكون الحمل أجدى إفادة ، ومن هذا القبيل قول المعرّي يصف فارسا في غارة :
يخوض بحرا نقعه ماؤه |
|
يحمله السّابح في لبده |
إذ قد علم السامع أنّ للفارس عند الغارة نقعا. وعلم أنّ الشّاعر أثبت للفارس بحرا وأنّ للبحر ماء ، فقد صار النّقع والبحر معلومين للسّامع ، فأفاده أنّ نقع الفارس هو ماء البحر المزعوم ، لأنّه أجدى لمناسبة استعارة البحر للنّقع ، وإلّا فما كان يعوز المعرّي أن يقول : ماؤه نقعه (١) فمن انتقد البيت فإنّه لم ينصفه.
وأكّد هذا الخبر بحرف التّوكيد ، وإن كان المشركون يثبتون الرّبوبيّة لله ، والمسلمون لا يمترون في ذلك ، لتنزيل المشركين من المخاطبين منزلة من يتردّد في كون الله ربّا لهم لكثرة إعراضهم عنه في عباداتهم وتوجهاتهم.
وقوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) صفة لاسم الجلالة ، والصّلة مؤذنة بالإيماء إلى وجه بناء الخبر المتقدّم ، وهو (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) لأنّ خلق السّماوات والأرض يكفيهم دليلا على انفراده بالإلهية ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) بسورة الأنعام[١].
وقوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تعليم بعظيم قدرته ، ويحصل منه للمشركين زيادة شعور بضلالهم في تشريك غيره في الإلهية ، فلا يدلّ قوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) على أنّ أهل مكّة كانوا يعلمون ذلك ، وفيه تحدّ لأهل الكتاب كما في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ١٩٧] وليس القصد من قوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الاستدلال على الواحدانية ، إذ لا دلالة فيه على ذلك.