وقد جاء (بعث) على ذلك في قوله : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) [الفرقان : ٥١] ، وقد تقدم آنفا قريب منه عند قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ) [الأعراف : ٩٤].
والمدائن : جمع مدينة ، وهي بوزن فعيلة ، مشتقة من مدن بالمكان إذا أقام ولعل (مدن) هو المشتق من المدينة لا العكس ، وأيّا ما كان فالأظهر أن ميم مدينة أصلية ولذلك جمعت على مدائن بالهمزة كما قالوا (صحائف) جمع صحيفة. ولو كانت مفعلة من دانه لقالوا في الجمع مدائن بالياء مثل معايش.
ومداين مصر في ذلك الزمن كثيرة وسنذكر بعضها عند قوله تعالى : (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) في سورة الشعراء [٥٣]. قيل أرادوا مدائن الصعيد وكانت مقر العلماء بالسحر. والحاشرون الذين يحشرون الناس ويجمعونهم.
والشأن أن يكون ملأ فرعون عقلاء أهل سياسة ، فعلموا أن أمر دعوة موسى لا يكاد يخفى. وأن فرعون إن سجنه أو عاند ، تحقق الناس أن حجة موسى غلبت ، فصار ذلك ذريعة للشك في دين فرعون ، فرأوا أن يلاينوا موسى ، وطمعوا أن يوجد في سحرة مصر من يدافع آيات موسى ، فتكون الحجة عليه ظاهرة للناس.
وجزم (يَأْتُوكَ) على جواب الأمر للدلالة على شدة اتصال السببية بين الإرسال والإتيان ، فالتقدير : إن ترسل يأتوك ، وقد قيل : في مثله إنه مجزوم بلام الأمر محذوفة ، على أن الجملة بدل من (أَرْسِلْ) بدل اشتمال. أي : أرسلهم آمرا لهم فليأتوك بكل ساحر عليم ، وهذا الاستعمال كثير في كلام العرب مع فعل القول نحو : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١] فكذلك ما كان فيه معنى القول كما هنا.
و (كل) مستعمل في معنى الكثرة ، أي : بجمع عظيم من السحرة يشبه أن يكون جميع ذلك النوع.
وقرأ الجمهور : (بِكُلِّ ساحِرٍ) وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : (بِكُلِّ سَحَّارٍ) ، على المبالغة في معرفة السحر ، فيكون وصف (عَلِيمٍ) تأكيدا لمعنى المبالغة لأن وصف (عَلِيمٍ) الذي هو من أمثلة المبالغة للدلالة على قوة المعرفة بالسحر ، وحذف متعلق (عَلِيمٍ) لأنه صار بمنزلة أفعال السجايا. والمقام يدل على أن المراد قوة علم السحر له.
[١١٣ ـ ١١٦]
(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ