موسى كلامهم ، وكان جوابه بعنف وغلظة بقوله : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) لأن ذلك هو المناسب لحالهم.
والجهل : انتفاء العلم أو تصور الشيء على خلاف حقيقته ، وتقدم في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) في سورة النساء [١٧] ، والمراد جهلهم بمفاسد عبادة الأصنام ، وكان وصف موسى إياهم بالجهالة مؤكدا لما دلت عليه الجملة الاسمية من كون الجهالة صفة ثابتة فيهم وراسخة من نفوسهم ، ولو لا ذلك لكان لهم في بادئ النظر زاجر عن مثل هذا السؤال ، فالخبر مستعمل في معنييه : الصريح والكناية ، مكنى به عن التعجب من فداحة جهلهم.
وفي الإتيان بلفظ (قَوْمٍ) وجعل ما هو مقصود بالإخبار وصفا لقوم ، تنبيه على أن وصفهم بالجهالة كالمتحقق المعلوم الداخل في تقويم قوميتهم ، وفي الحكم بالجهالة على القوم كلهم تأكيد للتعجب من حال جهالتهم وعمومها فيهم بحيث لا يوجد فيهم من يشذ عن هذا الوصف مع كثرتهم ، ولأجل هذه الغرابة أكد الحكم (بإن) لأن شأنه أن يتردد في ثبوته السامع.
وجملة (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) بمعنى التعليل لمضمون جملة (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) فلذلك فصلت عنها وقد أكدت وجعلت اسمية لمثل الأغراض التي ذكرت في أختها ، وقد عرّف المسند إليه بالإشارة لتمييزهم بتلك الحالة التي هم متلبسون بها أكمل تمييز ، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يرد بعد اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم متبرا أمرهم وباطلا عملهم ، وقدم المسند وهو (مُتَبَّرٌ) على المسند إليه وهو (ما هُمْ فِيهِ) ليفيد تخصيصه بالمسند إليه أي : هم المعرضون للتّبار وأنه لا يعدوهم البتة ، وأنه لهم ضربة لازب ، ولا يصح أن يجعل (مُتَبَّرٌ) مسندا إليه لأن المقصود بالإخبار هو ما هم فيه.
والمتبّر : المدمّر ، والتّبار ـ بفتح التاء ـ الهلاك (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) [نوح: ٢٨]. يقال نبر الشيء ـ كضرب وتعب وقتل ـ وتبّره تضعيف للتعدية ، أي أهلكه والتتبير مستعار هنا لفساد الحال ، فيبقى اسم المفعول على حقيقته في أنه وصف للموصوف به في زمن الحال.
ويجوز أن يكون التتبير مستعارا لسوء العاقبة ، شبه حالهم المزخرف ظاهره بحال الشيء البهيج الآئل إلى الدمار والكسر فيكون اسم المفعول مجازا في الاستقبال ، أي صائر إلى السوء.