من مضمون الجملة المعطوف عليها.
وقوله : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، تقدّم تفسيره ، وبيان ما تقدّم أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم ، من ظهور فضل ما علمه الله من الأسماء ما لم يعلّمه الملائكة ، عند قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) في سورة البقرة [٣٤].
وتعريف (لِلْمَلائِكَةِ) للجنس فلا يلزم أن يكون الأمر عاما لجميع الملائكة ، بل يجوز أن يكون المأمورون هم الملائكة ، الذين كانوا في المكان الذي خلق فيه آدم ، ونقل ذلك عن ابن عبّاس ، ويحتمل الاستغراق لجميع الملائكة. وطريق أمرهم جميعا وسجودهم جميعا لآدم لا يعلمه إلّا الله ، لأنّ طرق علمهم بمراد الله عنهم في العالم العلوي لا تقاس على المألوف في عالم الأرض.
واعلم أن أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم لا يقتضي أن يكون آدم قد خلق في العالم الذي فيه الملائكة بل ذلك محتمل ، ويحتمل أنّ الله لمّا خلق آدم حشر الملائكة ، وأطلعهم على هذا الخلق العجيب ، فإنّ الملائكة ينتقلون من مكان إلى مكان فالآية ليست نصّا في أنّ آدم خلق في السّماوات ولا أنّه في الجنّة التي هي دار الثّواب والعقاب ، وإن كان ظاهرها يقتضي ذلك ، وبهذا الظاهر أخذ جمهور أهل السنّة ، وتقدّم ذلك في سورة البقرة. واستثناء إبليس من الساجدين في قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ) يدلّ على أنّه كان في عداد الملائكة لأنّه كان مختلطا بهم. وقال السكاكي في «المفتاح» عدّ إبليس من الملائكة بحكم التّغليب.
وجملة : ، (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) حال من (إبليس) ، وهي حال مؤكدة لمضمون عاملها وهو ما دلّت عليه أداة الاستثناء ، لما فيها من معنى : أستثني ، لأنّ الاستثناء يقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى ، وهو عين مدلول : (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) فكانت الحال تأكيدا. وفي اختيار الاخبار عن نفي سجوده بجعله من غير السّاجدين : إشارة إلى أنّه انتفى عنه السّجود انتفاء شديدا لأنّ قولك لم يكن فلان من المهتدين يفيد من النّفي أشدّ ممّا يفيده قولك لم يكن مهتديا كما في قوله تعالى : (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) في سورة الأنعام [٥٦].
ففي الآية إشارة إلى أنّ الله تعالى خلق في نفس إبليس جبلة تدفعه إلى العصيان عند ما لا يوافق الأمر هواه ، وجعل له هوى ورأيا ، فكانت جبلته مخالفة لجبلة الملائكة.