وإنّما استمرّ في عداد الملائكة لأنّه لم يحدث من الأمر ما يخالف هواه ، فلمّا حدث الأمر بالسّجود ظهر خلق العصيان الكامن فيه ، فكان قوله تعالى : (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) إشارة إلى أنّه لم يقدّر له أن يكون من الطائفة السّاجدين ، أي انتفى سجوده انتفاء لا رجاء في حصوله بعد ، وقد علم أنّه أبى السّجود إباء وذلك تمهيدا لحكاية السّؤال والجواب في قوله: (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) ابتداء المحاورة ، لأنّ ترك إبليس السّجود لآدم بمنزلة جواب عن قول الله : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، فكان بحيث يتوجّه إليه استفسار عن سبب تركه السّجود ، وضمير : (قالَ) عائد إلى معلوم من المقام أي قال الله تعالى بقرينة قوله : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال : قلنا ، فكان العدول إلى ضمير الغائب التفاتا ، نكتته تحويل مقام الكلام ، إذ كان المقام مقام أمر للملائكة ومن في زمرتهم فصار مقام توبيخ لإبليس خاصة.
و (ما) للاستفهام ، وهو استفهام ظاهره حقيقي ، ومشوب بتوبيخ ، والمقصود من الاستفهام إظهار مقصد إبليس للملائكة.
و (مَنَعَكَ) معناه صدّك وكفّك عن السجود فكان مقتضى الظاهر أن يقال : ما منعك أن تسجد لأنّه إنّما كفّ عن السّجود لا عن نفي السجود فقد قال تعالى في الآية الأخرى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ، فلذلك كان ذكر (لا) هنا على خلاف مقتضى الظاهر ، فقيل هي مزيدة للتّأكيد ، ولا تفيد نفيا ، لأنّ الحرف المزيد للتّأكيد لا يفيد معنى غير التّأكيد. و (لا) من جملة الحروف التي يؤكّد بها الكلام كما في قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ١] ـ وقوله ـ (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الحديد : ٢٩] أي ليعلم أهل الكتابعلما محقّقا. وقوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥] أي ممنوع أنّهم يرجعون منعا محققا ، وهذا تأويل الكسائي ، والفراء ، والزّجاج ، والزّمخشري ، وفي توجيه معنى التّأكيد إلى الفعل مع كون السّجود غير واقع فلا ينبغي تأكيده خفاء لأنّ التّوكيد تحقيق حصول الفعل المؤكّد ، فلا ينبغي التّعويل على هذا التّأويل.
وقيل (لا) نافية ، ووجودها يؤذن بفعل مقدر دلّ عليه (مَنَعَكَ) لأنّ المانع من شيء يدعو لضدّه ، فكأنّه قيل : ما منعك أن تسجد فدعاك إلى أن لا تسجد ، فإمّا أن يكون (مَنَعَكَ) مستعملا في معنى دعاك ، على سبيل المجاز ، و (لا) هي قرينة المجاز ، وهذا تأويل السكاكي في «المفتاح» في فصل المجاز اللّغوي ، وقريب منه لعبد الجبّار فيما نقله