منها إلى التي قد أخصبت ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فيكون هذا من جملة ما توركوا به مثل السؤال عن الساعة ، وقد جمع رد القولين في قول.
ومعنى الملك هنا الاستطاعة والتمكن ، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) في سورة المائدة [٧٦] ، والمقصود منه ، هنا : ما يشمل العلم بالنفع والضر ، لأن المقام لنفي معرفة الغيب ، ولأن العلم بالشيء هو موجب توجه النفس إلى عمله.
وقدم النفع في الذكر هنا على الضر : لأن النفع أحب إلى الإنسان ، وعكس في آية المائدة ؛ لأن المقصود تهوين أمر معبوداتهم ؛ وأنها لا يخشى غضبها.
وإنما عطف قوله : (وَلا ضَرًّا) مع أن المرء لا يتطلب إضرار نفسه لأن المقصود تعميم الأحوال إذ لا تعدو أحوال الإنسان عن نافع وضار ، فصار ذكر هذين الضدين مثل ذكر المساء والصباح وذكر الليل والنهار والشر والخير وسيأتي مزيد بيان لهذا عند قوله تعالى : (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) في سورة الفرقان [٣] ، وجعل نفي أن يملك لنفسه نفعا أو ضرا مقدمة لنفي العلم بالغيب ، لأن غاية الناس من التطلع إلى معرفة الغيب هو الإسراع إلى الخيرات المستقبلة بتهيئة أسبابها وتقريبها ، وإلى التجنب لمواقع الإضرار ، فنفي أن يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، يعم سائر أنواع الملك وسائر أنواع النفع والضر ، ومن جملة ذلك العموم ما يكون منه في المستقبل وهو من الغيب.
والاستثناء من مجموع النفع والضر ، والأولى جعله متصلا ، أي إلّا ما شاء الله أن يملّكنيه بأن يعلمنيه ويقدرني عليه ، فإن لم يشأ ذلك لم يطلعني على مواقعه وخلق الموانع من أسباب تحصيل النفع ، ومن أسباب اتقاء الضر ، وحمله على الاتصال يناسب ثبوت قدرة للعبد بجعل الله تعالى وهي المسماة بالكسب ، فإذا أراد الله أن يوجه نفس الرسول عليه الصلاة والسلام إلى معرفة شيء مغيب أطلعه عليه لمصلحة الأمة أو لإكرام الأمة له كقوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ) ـ إلى قوله : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٤].
وقوله : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) إلخ تكملة للتبرؤ من معرفة الغيب ، سواء منه ما كان يخص نفسه وما كان من شئون غيره.