شيء وفعل ضدّه يأمر بضدّه فيحصل الغرضان من أمره.
وإقامة الوجوه تمثيل لكمال الإقبال على عبادة الله تعالى ، في مواضع عبادته ، بحال المتهيّئ لمشاهدة أمر مهم حين يوجه وجهه إلى صوبه ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فذلك التّوجّه المحض يطلق عليه إقامة لأنّه جعل الوجه قائما ، أي غير متغاض ولا متوان في التّوجّه ، وهو في إطلاق القيام على القوّة في الفعل كما يقال : قامت السّوق ، وقامت الصّلاة ، وقد تقدّم في أوّل سورة البقرة [٣] عند قوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ومنه قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) [الروم : ٣٠] فالمعنى أنّ الله أمر بإقامة الوجوه عند المساجد ، لأنّ ذلك هو تعظيم المعبود ومكان العبادة ، ولم يأمر بتعظيمه ولا تعظيم مساجده بما سوى ذلك مثل التّعرّي ، وإشراك الله بغيره في العبادة مناف لها أيضا ، وهذا كما ورد في الحديث : «المصلّي يناجي ربّه فلا يبصقنّ قبل وجهه» فالنّهي عن التّعرّي مقصود هنا لشمول اللّفظ إياه ، ولدلالة السّياق عليه بتكرير الامتنان والأمر باللّباس : ابتداء من قوله : (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) [الأعراف : ٢٠] إلى هنا.
ومعنى : (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) عند كلّ مكان متخذ لعبادة الله تعالى ، واسم المسجد منقول في الإسلام للمكان المعيّن المحدود المتّخذ للصّلاة وتقدّم عند قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) في سورة العقود [٢] ، فالشّعائر التي يوقعون فيها أعمالا من الحجّ كلّها مساجد ، ولم يكن لهم مساجد غير شعائر الحجّ ، فذكر المساجد في الآية يعيّن أنّ المراد إقامة الوجوه عند التّوجّه إلى الله في الحجّ بأن لا يشركوا مع الله في ذلك غيره من أصنامهم بالنّية ، كما كانوا وضعوا (هبل) على سطح الكعبة ليكون الطّواف بالكعبة لله ولهبل ، ووضعوا (إسافا ونائلة) على الصّفا والمروة ليكون السّعي لله ولهما. وكان فريق منهم يهلّون إلى (مناة) عند (المشلل) ، فالأمر بإقامة الوجوه عند المساجد كلّها أمر بالتزام التّوحيد وكمال الحال في شعائر الحجّ كلّها ، فهذه مناسبة عطف قوله : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) عقب إنكار أن يأمر الله بالفحشاء من أحوالهم ، وإثبات أنّه أمر بالقسط ممّا يضادها. وهذا الأمر وإن كان المقصود به المشركين لأنّهم المتّصفون بضدّه ، فللمؤمنين منه حظّ الدّوام عليه ، كما كان للمشركين حظّ الإعراض عنه والتّفريط فيه.
والدّعاء في قوله : (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) بمعنى العبادة أي اعبدوه كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الأعراف : ١٩٤]. والإخلاص تمحيض الشّيء من مخالطة