بخلاف ما حكي عنهم في يوم الحشر من قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ولذلك قال هنا : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) ، وقال في الأخرى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الأنعام : ٢٤].
والشّهادة هنا شهادة ضمنية لأنّهم لما لم ينفوا أن يكونوا يدعون من دون الله وأجابوا بأنّهم ضلّوا عنهم قد اعترفوا بأنّهم عبدوهم.
فأمّا قوله : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) فهذا قول آخر ، ليس هو من المحاورة السّابقة ، لأنّه جاء بصيغة الإفراد ، والأقوال قبله مسندة إلى ضمائر الجمع ، فتعيّن أنّ ضمير (قال) عائد إلى الله تعالى بقرينة المقام ، لأنّ مثل هذا القول لا يصدر من أحد غير الله تعالى ، فهو استيناف كلام نشأ بمناسبة حكاية حال المشركين حين أوّل قدومهم على الحياة الآخرة ، وهي حالة وفاة الواحد منهم فيكون خطابا صدر من الله إليهم بواسطة أحد ملائكته ، أو بكلام سمعوه وعلموا أنّه من قبل الله تعالى بحيث يوقنون منه أنّهم داخلون إلى النّار ، فيكون هذا من أشدّ ما يرون فيه مقعدهم من النّار عقوبة خاصّة بهم. والأمر مستعمل للوعيد فيتأخّر تنجيزه إلى يوم القيامة.
ويجوز أن يكون المحكي به ما يصدر من الله تعالى يوم القيامة من حكم عليهم بدخول النّار مع الأمم السّابقة ، فذكر عقب حكاية حال قبض أرواحهم إكمالا لذكر حال مصيرهم ، وتخلّصا إلى وصف ما ينتظرهم من العذاب ولذكر أحوال غيرهم. وأيّا ما كان فالإتيان بفعل القول ، بصيغه الماضي : للتنبيه على تحقيق وقوعه على خلاف مقتضى الظاهر.
ويجوز أن تكون جملة : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) في موضع عطف البيان لجملة (يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أي : قال الله فيما كتبه لهم (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) [الأعراف : ٣٤] أي أمثالكم ، والتّعبير بفعل المضي جرى على مقتضى الظّاهر.
والأمم جمع الأمّة بالمعنى الذي تقدّم في قوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ).
و (في) من قوله : (فِي أُمَمٍ) للظّرفية المجازيّة ، وهي كونهم في حالة واحدة وحكم واحد ، سواء دخلوا النّار في وسطهم أم دخلوا قبلهم أو بعدهم ، وهي بمعنى (مع) في تفسير المعنى ، ونقل عن صاحب «الكشاف» أنه نظّر (في) التي في هذه الآية بفي التي في قول عروة بن أذينة :