وليس المقصود من النهي عن أن يقول لهما (أُفٍ) خاصة ، وإنما المقصود النهي عن الأذى الذي أقله الأذى باللسان بأوجز كلمة ، وبأنها غير دالة على أكثر من حصول الضجر لقائلها دون شتم أو ذم ، فيفهم منه النهي مما هو أشد أذى بطريق فحوى الخطاب بالأولى.
ثم عطف عليه النهي عن نهرهما لئلا يحسب أن ذلك تأديب لصلاحهما وليس بالأذى. والنهر الزجر ، يقال : نهره وانتهره.
ثم أمر بإكرام القول لهما. والكريم من كل شيء : الرفيع في نوعه. وتقدم عند قوله تعالى : (وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) في سورة الأنفال [٤].
وبهذا الأمر انقطع العذر بحيث إذا رأى الولد أن ينصح لأحد أبويه أو أن يحذر مما قد يضر به أدى إليه ذلك بقول لين حسن الوقع.
ثم ارتقى في الوصاية بالوالدين إلى أمر الولد بالتواضع لهما تواضعا يبلغ حد الذل لهما لإزالة وحشة نفوسهما إن صارا في حاجة إلى معونة الولد ، لأن الأبوين يبغيان أن يكونا هما النافعين لولدهما. والقصد من ذلك التخلق بشكره على أنعامهما السابقة عليه.
وصيغ التعبير عن التواضع بتصويره في هيئة تذلل الطائر عند ما يعتريه خوف من طائر أشد منه إذ يخفض جناحه متذللا. ففي التركيب استعارة مكنية والجناح تخييل بمنزلة تخييل الأظفار للمنية في قول أبي ذؤيب :
وإذا المنية أنشبت أظفارها |
|
ألفيت كل تميمة لا تنفع |
وبمنزلة تخييل اليد للشمال ـ بفتح الشين ـ والزمام للقرة في قول لبيد :
وغداة ريح قد كشفت وقرة |
|
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها |
ومجموع هذه الاستعارة تمثيل. وقد تقدم في قوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) في سورة الحجر [٨٨].
والتعريف في (الرَّحْمَةِ) عوض عن المضاف إليه ، أي من رحمتك إياهما. و (من) ابتدائية ، أي الذل الناشئ عن الرحمة لا عن الخوف أو عن المداهنة. والمقصود اعتياد النفس على التخلق بالرحمة باستحضار وجوب معاملته إياهما بها حتى يصير له خلقا ، كما قيل :