ولما أسند التسبيح إلى كثير من الأشياء التي لا تنطق دل على أنه مستعمل في الدلالة على التنزيه بدلالة الحال ، وهو معنى قوله : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) حيث أعرضوا عن النظر فيها فلم يهتدوا إلى ما يحف بها من الدلالة على تنزيهه عن كل ما نسبوه من الأحوال المنافية للإلهية.
والخطاب في (لا تَفْقَهُونَ) يجوز أن يكون للمشركين جريا على أسلوب الخطاب السابق في قوله : (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) [الإسراء : ٤٠] وقوله : (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ) كما تقولون [الإسراء : ٤٢] لأن الذين لم يفقهوا دلالة الموجودات على تنزيه الله تعالى هم الذين لم يثبتوا له التنزيه عن النقائص التي شهدت الموجودات ـ حيثما توجه إليها النظر ـ بتنزيهه عنها فلم يحرم من الاهتداء إلى شهادتها إلا الذين لم يقلعوا عن اعتقاد أضدادها. فأما المسلمون فقد اهتدوا إلى ذلك التسبيح بما أرشدهم إليه القرآن من النظر في الموجودات وإن تفاوتت مقادير الاهتداء على تفاوت القرائح والفهوم.
ويجوز أن يكون لجميع الناس باعتبار انتفاء تمام العلم بذلك التسبيح.
وقد مثل الإمام فخر الدين ذلك فقال : إنك إذا أخذت تفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثير من الأجزاء التي لا تتجزأ (أي جواهر فردة) ، وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله ، ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ صفات مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة ، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة هو من الجائزات فلا يجعل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم ، فكل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله تعالى ، ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم وأحوال تلك الصفات غير معلومة ، فلهذا المعنى قال تعالى : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
ولعل إيثار فعل (لا تَفْقَهُونَ) دون أن يقول : لا تعلمون ، للإشارة إلى أن المنفي علم دقيق فيؤيد ما نحاه فخر الدين.
وقرأ الجمهور (يُسَبِّحُ) ـ بياء الغائب ـ وقرأه أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف ـ بتاء جماعة المؤنث ـ والوجهان جائزان في جموع غير العاقل وغير حقيقي التأنيث.
وجملة (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) استئناف يفيد التعريض بأن مقالتهم تقتضي تعجيل