وجواب آخر : عن أصل السؤال : أنه يجوز أن يكون قد أعطى جميع السائلين بعضا من كلّ فرد مما سأله جميعهم ، وبهذا المقدار يصح الإخبار في الآية وإن لم يعط كل واحد من السائلين بعضا من كل فرد مما سأله ذاك ، وإيضاح ذلك أن يكون هذا قد أعطي شيئا مما سأله ذاك ، وأعطي ذاك شيئا مما سأله هذا على ما اقتضته الحكمة والمصلحة في حقهما ، كما أعطي النبيّ عليه الصلاة والسلام الرؤية ليلة المعراج وهي مسئول موسى عليهالسلام وما أشبه ذلك.
[٥٢٠] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤] والإحصاء والعد بمعنى واحد كذا نقله الجوهري ، فيكون المعنى وإن تعدوا نعمة الله لا تعدوها ، وهو متناقض كقولك : إن تر زيدا لا تبصره ، إذ الرؤية والإبصار واحد؟
قلنا : بعض المفسرين فسّر الإحصاء بالحصر ، فإن صحّ ذلك لغة ، اندفع السؤال. ويؤيّد ذلك قول الزّمخشري لا تحصوها ، أي لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها ، وعلى القول الأول فيه إضمار تقديره : وإن تريدوا عد نعمة الله لا تعدوها.
[٥٢١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤] وهو يوهم أن نعم الله غير متناهية ، وكل نعمة ممتن بها علينا فهي مخلوقة ، وكل مخلوق متناه؟
قلنا : لا نسلم أنه يوهم أنها لا تتناهى ، وذلك لأن المفهوم منه منحصر في أنا لا نطيق عدّها أو حصر عددها ، ويجوز أن يكون الشيء متناهيا في نفسه ، والإنسان لا يطيق عدّه كرمل القفار وقطر البحار وورق الأشجار وما أشبه ذلك.
[٥٢٢] فإن قيل : كيف قال إبراهيم عليهالسلام : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] وعبادة الأصنام كفر ، والأنبياء معصومون عن الكفر بإجماع الأمة ، فكيف حسن منه هذا السؤال؟
قلنا : إنما سأل هذا السؤال في حالة خوف أذهله عن ذلك العلم ؛ لأن الأنبياء عليهمالسلام أعلم الناس بالله فيكونون أخوفهم منه فيكون معذورا بسبب ذلك.
وقيل إن في حكمة الله تعالى وعلمه أن لا يبتلي نبيا من الأنبياء بالكفر بشرط أن يكون متضرعا إلى ربه طالبا منه ذلك ، فأجرى على لسانه هذا السؤال لتحقيق شرط العصمة.
[٥٢٣] فإن قيل : كيف قال : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦] جعل الأصنام مضلة. والمضل ضار. وقال في موضع آخر : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) [يونس : ١٨] ، ونظائره كثيرة فكيف التوفيق بينهما؟