قلنا : معناه بالغوا في إخفاء المسارة بحيث لم يفطن أحد لتناجيهم ومسارتهم تفصيلا ولا إجمالا ، فإن الإنسان قد يرى اثنين يتساران فيعلم من حيث الإجمال أنهما يتساران ، وإن لم يعلم تفصيل ما يتساران به ، وقد يتساران في مكان لا يراهما أحد.
[٦٩٤] فإن قيل : كيف قال تعالى لمشركي مكة (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) [الأنبياء : ٧] يعني فسئلوا أهل الكتاب عمن مضى من الرسل ، هل كانوا بشرا أم ملائكة؟ مع أن المشركين قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [سبأ : ٣١]؟
قلنا : هم وإن لم يؤمنوا بكتاب أهل الكتاب ، ولكن النقل المتواتر من أهل الكتاب في القضية العقلية يفيد العلم لمن يؤمن بكتابهم ولمن لا يؤمن به.
[٦٩٥] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩] والاستحسار مبالغة في الحسور وهو الإعياء ، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور أو مطلقه لا أقصاه؟
قلنا : إنما ذكر الاستحسار إشارة إلى أن ما هم فيه من التسبيح الدائم والعبادة المتصلة يوجب غاية الحسور وأقصاه.
[٦٩٦] فإن قيل : قوله تعالى في وصف الملائكة : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] إلى قوله تعالى : (مُشْفِقُونَ) يدل على أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ، فإذا كانوا لا يعصون الله تعالى فلم يخافون حتى قال تعالى : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء : ٢٨]؟
قلنا : لما رأوا ما جرى على إبليس وعلى هاروت وماروت من القضاء والقدر خافوا من مثل ذلك.
الثاني : أن زيادة معرفتهم بالله وقربهم في محل كرامته يوجب مزيد خوفهم ، ولهذا قال أهل التحقيق : من كان بالله أعرف كان من الله أخوف ، ومن كان إلى الله أقرب كان من الله أرهب. وقال بعضهم : يا عجبا من مطيع آمن ومن عاص خائف.
[٦٩٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠] وهم لم يروا ذلك؟
قلنا : معناه أولم يعلموا ذلك بأخبار من قبلهم أو بوروده في القرآن الذي هو معجزة في نفسه ، ونظيره قوله تعالى للنبي صلىاللهعليهوسلم : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٤١] وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) [النور : ٤٣] الآية ، ونظائره كثيرة.
[٦٩٨] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] ؛ مع أن الملائكة أحياء والجن أحياء ، وليسوا مخلوقين من الماء بل من النور