[٨٣] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] ، وما يحدّث به الإنسان نفسه لا يأثم به ما لم يفعله ؛ إمّا لأنّه لا يمكن الاحتراز عنه ، في الوسع والطاقة ، أو بالحديث المشهور فيه؟
قلنا : قيل : أريد بالآية العموم ثم نسخ بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦]. وقيل : لا نسخ فيه ؛ لأنّه خبر لا أمر أو نهي ؛ بل العموم غير مراد ؛ وإنّما المراد ما يمكن الاحتراز عنه ، وهو العزم القاطع ، والاعتقاد الجازم ؛ لا مجرّد حديث النفس والوسوسة. ولأنّه أخبر عن المحاسبة لا عن المعاقبة ؛ فهو يوم القيامة يخبر العباد بما أبدوا وما أخفوا ، ليعلموا إحاطة علمه بجميع ذلك ؛ ثم يغفر لمن يشاء فضلا ، ويعذّب من يشاء عدلا ، كما أخبر في الآية.
[٨٤] فإن قيل : أيّ شرف للرّسول صلىاللهعليهوسلم في مدحه بالإيمان ؛ مع أنّه في رتبة الرّسالة ودرجتها ، وهي أعلى من درجة الإيمان ؛ فما فائدة قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ) [البقرة : ٢٨٥]؟
قلنا : فائدة أن يبيّن للمؤمنين زيادة شرف الإيمان ؛ حيث مدح به خواصّه ورسله ؛ ونظيره ، في سورة الصافات ، قوله تعالى ، في خاتمة ذكر كلّ نبيّ : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات : ٨١].
[٨٥] فإن قيل : روي عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أنّه قرأ : «ملائكته وكتابه» ، فسئل عن ذلك ، فقال : «كتاب أكثر من كتب» فما وجهه؟
قلنا : قيل فيه أنه أراد أنّ الكتاب جنس والكتب جمع ، والجنس أكثر من الجمع ؛ لأنّ حقيقته في الكلّ على ما ذهب إليه بعضهم. ويرد على هذا أن يقال : الكلام في الجمع المضاف والمفرد المضاف للاستغراق ، عرفا وشرعا ، كقوله لعبده : أكرم أصدقائي ، وأهن أعدائي ؛ وقوله : زوجاتي طوالق وعبيدي أحرار ؛ بخلاف قوله : صديقي وعدوي وعبدي وامرأتي ؛ فظهر أنّ الجمع المضاف أكثر.
[٨٦] فإن قيل : قوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] ، كيف قال ذلك ؛ مع أنّ بين لا تضاف إلّا إلى اثنين فصاعدا ، فكيف قال : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥].
قلنا : أحد هنا بمعنى الجمع الذي هو آحاد كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) [الحاقة : ٤٧] فإنّه ثمّ بمعنى الجمع ، بدليل قوله تعالى : (حاجِزِينَ) فكأنه قال : لا نفرق بين آحاد من رسله ، كقولك : المال بين آحاد الناس ؛ ولأنّ أحدا يصلح للمفرد المذكر والمؤنث ، وتثنيتهما وجمعهما نفيا وإثباتا ، تقول : ما رأيت أحدا إلّا بني فلان ،