أهل النار أخفّ عذابا ، فمكانه فيها أعلى ؛ وبعضهم أشدّ عذابا ، ومكانه فيها أسفل.
ولو سلّم اختصاص الدّرجات بأهل الدرجات ، كان قوله : «هم درجات» راجعا إليهم خاصّة ، تقديره : أفمن اتّبع رضوان الله ، وهم درجات عند الله ، (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : ١٦٢] ، وهم دركات! إلّا أنّه حذف البعض لدلالة المذكور عليه.
[١٢٤] فإن قيل : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] كانوا في زمن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قالوا ذلك لمّا سمعوا قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] فكيف قال : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ) [آل عمران : ١٨١] أي ونكتب قتلهم الأنبياء ، وهم لم يقتلوا نبيّا قط؟
قلنا : لمّا رضوا بقتل أسلافهم الأنبياء ، كأنهم باشروا ذلك ؛ فأضيف إليهم. وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيرا.
[١٢٥] فإن قيل : كيف قال : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [آل عمران : ١٨٢] وظلّام صيغة مبالغة من الظلم ؛ ولا يلزم من نفي الظلّام نفي الظّالم ؛ وعلى العكس يلزم. فهلّا قال : ليس بظالم ليكون أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدّسة؟
قلنا : صيغة المبالغة جيء بها لكثرة العبيد ، لا لكثرة الظّلم ؛ كما قال الله تعالى : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] وقال : (عالِمُ الْغَيْبِ) [الأنعام : ٧٣] و (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [التوبة : ٧٨]. لمّا أفرد المعمول لم يأت بصيغة المبالغة. ونظيره قولهم : زيد ظالم لعبده ، وعمرو ظلّام لعبيده ؛ فهما في الظّلم سيّان. وكذلك قال الله تعالى : (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [الفتح : ٢٧] ، فشدّد لكثرة الفاعلين لا لتكرار الفعل. أو الصيغة هنا للنّسب ، أي لا ينسب إليه ظلم ؛ فالمعنى ليس بذي ظلم.
الثاني : أنّ العذاب من العظيم القدر الكثير العدل ، لو لا سبق الجناية ، يكون أفحش وأقبح من الظلم ممّن ليس عظيم القدر كثير العدل. فيطلق عليه اسم الظلّام باعتبار زيادة قبح الفعل منه ، لا باعتبار تكرره.
فحاصله ، أنّ صيغة المبالغة تارة تكون باعتبار زيادة ذات الفعل ، وتارة باعتبار صفته. ففعل الظلم لو وجد من الله تعالى وتقدس لكان أعظم من ألف ظلم يوجد من عبيده ؛ باعتبار زيادة وصف القبح ؛ ونظيره قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢] على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
[١٢٦] فإن قيل : في قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [آل عمران : ١٨٤] من حقّ الجزاء أن يتعقّب الشّرط ، وهذا سابق له؟
قلنا : جواب الشّرط محذوف ، إذ لا يصلح قوله : (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)