كما نسبوا اليه الملائكة والمسيح وعزيرا (لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ) من أصناف الملائكة وأنواع البشر والجنّ (ما يَشاءُ) من البنين لا ما نسبوا اليه من البنات (سُبْحانَهُ) عن الشّريك والولد والصّاحبة (هُوَ اللهُ الْواحِدُ) الّذى لا مثل له حتّى يكون له ولد القهار الّذي لا يجوز في قهّاريّته ان يكون له شريك ومثل ، والولد يكون مثلا له ، والشّريك يكون مثلا له ومقابلا لا مقهورا (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) بمعنى يولج اللّيل في النّهار ، أو هو من تكرير العمامة ولفّ طاقاته كلّ على الاخرى ، أو بمعنى يغشى اللّيل النّهار ، أو بمعنى يكرّر تتابع اللّيل للنّهار والنّهار للّيل (وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) وللاشارة الى تتابع اللّيل والنّهار وتكرار تكويرهما أتى بالمضارع في جانبهما وبالماضي هاهنا (كُلٌّ يَجْرِي) على الاستمرار (لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ) الّذى لا يمنع من مراده حيث لا يمنعه مانع من هذا التّكوير وذلك التّسخير الغفار الّذي لا يؤاخذ عباده على ما هم فيه من الإشراك ونسبة الولد اليه وسائر المعاصي لعلّهم يتوبون فيغفر لهم (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) قد سبق في سورة النّساء بيان الآية (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أتى بثمّ للاشارة الى التّعقيب في الاخبار فانّ خلق الجماعة الكثيرة من نفس واحدة لا غرابة فيه ، وخلق الزّوج الّتى تكون شريكة لها في خلق الجماعة الكثيرة منها امر غريب بالنّسبة اليه (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) قد سبق بيان الثّمانية الأزواج في سورة الانعام وانزل بمعنى خلق كما نسب الى أمير المؤمنين (ع) ، واستعمال انزل للاشعار بانّ شيئيّة الشّيء بفعليّته الاخيرة والفعليّة الاخيرة لكلّ ذي نفس هي نفسه والتّحقيق انّ النّفوس وان كانت جسمانيّة الحدوث لكنّها منزلة من سماء الأرواح وأرباب الأنواع الى افراد الأنواع فاستعمال انزل في معنى خلق لم يكن على سبيل المجاز (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) حيوانا سويّا بعد خلق اللّحم والعظام بعد المضغة والعلقة والنّطفة (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ظلمة البطن والرّحم والمشيمة كما في الخبر (ذلِكُمُ اللهُ) الّذى هذه المذكورات أوصافه وافعاله ربكم فلا تطلبوا ربّا سواه (لَهُ الْمُلْكُ) جملة ما يملك ممّا سواه اوّله عالم الملك مقابل الملكوت (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) لمّا بالغ في وعظهم وصرفهم عن المعبودات الباطلة توهّم انّ الله تعالى للاحتياج إليهم يستصرفهم عن المعبودات ، فرفع ذلك التّوهّم بانّ اهتمامه لصرفكم اليه ليس الّا محض الرّحمة والتّفضل عليكم لا لاحتياجه إليكم (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ).
تحقيق كون الكفر بإرادة الله وعدم رضاه به ورضاه بالايمان
قد سبق في مطاوى ما سلف انّ الرّحمة الرّحمانيّة الّتى بها وجود الأشياء وبقاؤها بمنزلة المادّة للرّحمة الرّحيميّة والغضب ، وللرّضا والسّخط ، وللهداية والإضلال ، وانّ المكوّنات كلّها كمالاتها الاوّليّة الذّاتيّة تحصل بالرّحمة الرّحمانيّة ، والكمالات الثّانية الّتى تصل إليها تكوينا ان لم يعقها عائق تحصل بالرّحمة الرّحيميّة ويقال لها : الولاية التّكوينيّة والرّضا التّكوينىّ ، وانّ ذوي العقول وصولها الى كمالاتها الثّانية التّكليفيّة بالرّحمة الرّحيميّة ، ويقال لها : الولاية التّكليفيّة والرّضا والهداية والتّوفيق وغير ذلك ، وانّ انحراف المكوّنات تكوينا عن طريقها المستقيمة الّتى تكون بالفطرة سالكة عليها الى كمالاتها الثّانية وانحراف المكلّفين عن طريقهم المستقيمة التّكليفيّة لا تكون الّا بإرادة الله ومشيّته لكن ذلك الانحراف لا يكون الّا من نقص مادّته وحدود وجوده فيكون نسبته الى نفسه اولى من نسبته الى خالقه ويكون غير مرضىّ لله وان كان مرادا له فانّ الارادة بحسب الرّحمة الرّحمانيّة ، والرّضا بحسب الرّحمة