____________________________________
وأصل هذه المنازعة أن رئيس المعتزلة واصل بن عطاء (١) اعتزل مجلس الحسن البصري (٢) رضي الله عنه يقرّر أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر ، وأثبت المنزلة بين المنزلتين ، فقال الحسن رضي الله عنه : قد اعتزل عنّا فسمّوا المعتزلة وهم سمّوا أنفسهم أصحاب العدل والتوحيد لقولهم بوجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي على الله سبحانه ، ونفي الصفات القديمة عنه ، ثم أنهم توغلوا في علم الكلام وتشبثوا بأذيال الفلاسفة في كثير من الأصول ، وشاع مذهبهم فيما بين الناس إلى أن قال الشيخ أبو الحسن الأشعري لأستاذه أبي علي الجبائي (٣) : ما تقول في ثلاثة إخوة مات أحدهم مطيعا والآخر عاصيا والثالث صغيرا؟ فقال : الأول : يثاب بالجنة ، والثاني : يعاقب بالنار ، والثالث : لا يعاقب ولا يثاب ، قال الأشعري : فإن قال الثالث : يا رب لم أمتّني صغيرا ، وما أبقيتني إلى أن أكبر فأومن بك وأطيعك فأدخل الجنة ، فقال : يقول الربّ : إني كنت أعلم منك أنك لو كبرت لعصيت فدخلت النار ، فكان الأصلح لك أن تموت صغيرا. قال الأشعري : فإن قال الثاني : يا ربّ لم لم تمتني صغيرا لئلا أعصي فلا أدخل النار ما ذا يقول الربّ؟ فبهت الجبائي وترك الأشعري مذهبه واشتغل هو ومن تبعه بإبطال رأي المعتزلة وإثبات ما وردت به السّنّة ومضى عليه الجماعة فسمّوا أهل السّنّة والجماعة ، ثم لما نقلت الفلسفة إلى العربية وخاض فيها الطبقة الإسلامية حاولوا الردّ على الفلاسفة والحكماء الطبيعية فيما خالفوا فيها الشريعة الحنيفية ، فخلطوا بعلم الكلام كثيرا من الفلسفة في مقام المرام ليتحقّقوا مقاصدها فيتمكّنوا من إبطالها وردّها وهلمّ جرّا إلى أن أدرجوا فيه معظم الطبيعيات والإلهيات والرياضيات حتى كاد لا يتميز عن الفلسفيات لو لا اشتماله على السمعيات (٤) فصار بهذا الاعتبار مذموما عند العلماء بالكتاب والسّنّة الذين يكتفى بهما في أمر الدين من النقليات والعقليات.
__________________
(١) واصل بن عطاء الغزال ، أبو حذيفة من موالي بني ضبة ، أو بني مخزوم ، من أئمة البلغاء والمتكلمين ، سمّي أتباعه بالمعتزلة لاعتزاله حلقة الحسن البصري ، وهو الذي نشر مذهب الاعتزال ، ولد سنة ٦٠ ه ، وتوفي سنة ١٣١ ه. انظر لسان الميزان ٦ / ٢١٤.
(٢) هو الحسن بن يسر من مشاهير علماء التابعين ، وزهّاد البصرة في القرن الهجري الأول وكان يلقّب بإمام أهل البصرة ، توفي سنة ١١٥ ه. انظر طبقات ابن سعد ٧ / ١٥٦ ، وتذكرة الحفّاظ ١ / ٧١.
(٣) هو محمد بن عبد الوهاب الجبائي رئيس المعتزلة بالبصرة ، ولد في الجباء ، وهي قرية وفي الوفيات في جبي (خوزستان) وتوفي سنة ٣٣٠ ه. انظر وفيات الأعيان رقم : ٥٧٩.
(٤) الكلام من قوله وأصل هذه المنازعة ص ١٠٣ إلى هنا مأخوذ من شرح العقائد النسفية ص ٥٤ و ٥٥.