متفاضلون في الأعمال ...
____________________________________
أشكل على كثير من الناس حتى ظنها بعضهم منسوخة وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي (١) ، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفّار وأوّل بعضهم الدخول بالخلود فإن الشّارع لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط وتأمّل حديث البطاقة (٢) فإن من المعلوم أن كل موحّد له مثل هذه البطاقة ، وكثير منهم يدخل النار (متفاضلون في الأعمال) أي باختلاف الأحوال.
__________________
ـ لمعاذ وهو رديفه على الرحل : «ما من عبد يشهد أن لا إله إلّا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرّمه على النار». وفي صحيح مسلم ٩١ من حديث ابن مسعود : «لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبّة خردل من إيمان». وهذه الأحاديث لا تؤخذ على إطلاقها لأن الأدلة من الكتاب والسّنّة متضافرة على أن طائفة من عصاة المؤمنين يعذّبون ، ثم يخرجون من النار بالشفاعة ، فتأوّله العلماء فيمن قرن ذلك بالأعمال الصالحة ، أو قالها تائبا ، ثم مات على ذلك ، أو أنه خرج ذلك مخرج الغالب ، إذ الموحّد يعمل بالطاعة ، ويجتنب المعصية ، أو أن المراد بتحريمه على النار تحريم خلوده فيها.
(١) منهم الزهري والثوري وغيرهما ، قال الحافظ ابن رجي في «تحقيق كلمة الإخلاص» : وهذا بعيد جدّا ، فإن كثيرا منها كان بالمدينة بعد نزول الفرائض والحدود ، وفي بعضها أنه كان في غزوة تبوك ، وهو في آخر حياة النبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم قال : وقد يكون مرادهم بالنسخ البيان والإيضاح ، فإن السلف كانوا يطلقون النسخ على مثل ذلك كثيرا ، ويكون مقصودهم أن آيات الفرائض والحدود تبين بها توقف دخول الجنة والنجاة من النار على فعل الفرائض ، واجتناب المحارم ، فصارت تلك النصوص منسوخة أي : مبيّنة ومفسّرة ، ونصوص الفرائض والحدود ناسخة ، أي : مفسّرة لمعنى تلك النصوص وموضّحة لها ، وقال : تلك النصوص المطلقة جاءت مقيّدة في أحاديث أخر ، ففي بعضها : «من قال لا إله إلّا الله مخلصا» ، وفي بعضها : «متيقنا» ، وفي بعضها : «يصدق قلبه لسانه» ، وفي بعضها : «يقولها من قلبه» ، وفي بعضها : «قد ذلّ بها لسانه ، واطمأن بها لسانه ، واطمأن بها قلبه» وهذا كله إشارة إلى عمل القلب وتحقّقه بمعنى الشهادتين ، فتحقّقه بلا إله إلا الله ، أن لا يألّه القلب غير الله حبّا ورجاء وخوفا وتوكّلا واستعانة وخضوعا وإنابة وطلبا ، وتحقّقه بمعنى : «وأن محمدا رسول الله» أن لا يعبد الله بغير ما شرعه الله على لسان رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم. ا. ه.
(٢) حديث البطاقة أخرجه أحمد ٢ / ٢٣ و ٢٢١ ـ ٢٢٢ ، والترمذي ٢٦٤١ ، وابن ماجة ٤٣٠٠ ، والبغوي ٤٣٢١ من حديث الليث بن سعد ، عن عامر بن يحيى ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلّا كل سجلّ مدّ البصر ...». وحسّنه الترمذي ، وصحّحه ابن حبان ٢٢٥ ، والحاكم ١ / ٥٢٥ ، ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا.