____________________________________
معناه يره في الدنيا ليرد الآخرة ، ولا خير له كما أن المؤمن يرى في الدنيا جزاء ما ارتكبه من السيئات بأن يصيبه بعض البليّات ليرد الآخرة بريئا من الذنوب نقيّا من العيوب. وقال ابن عباس رضي الله عنه : ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا ، أو شرّا إلّا أراه الله إيّاه فأما المؤمن فيغفر له سيئاته ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر فترد حسناته ويعذّب بسيئاته.
وقال شارح عقيدة الطحاوي (١) : وهل يجبّ الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها أم لا بدّ مع الإسلام من التوبة من غير الشرك حتى لو أسلم وهو مصرّ على الزنا وشرب الخمر مثلا ، هل يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر ، أم لا بدّ أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه ، أو يتوب توبة عامه من كل ذنب؟ وهذا هو الأصح أنه لا بدّ من التوبة مع الإسلام (٢). انتهى.
ولا يخفى أن هذا ميل إلى قول من قال : إن الكافر مكلّف بالفروع ، والمذهب الصحيح بخلافه فبعد ما أسلم لا يحتاج إلى توبة أخرى بعد توبته من الشرك الذي يجبّ ما قبله من الذنوب إلا بعض ما يتعلق بحقوق العباد ، كما بيّن في محله. نعم يجب عليه أن يكون نادما على شركه وسائر معاصيه ، وأن يقلع عن مباشرة المناهي وأن يعزم على عدم العود إليها ، ثم كون التوبة سببا لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة وليس شيئا يكون سببا لغفران جميع الذنوب إلا التوبة ، كما قال الله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٣). وهذا مختصّ بمن تاب من الكفر ، فإن الله لا يغفر أن يشرك به ، ولذا قال الله تعالى : (لا تَقْنَطُوا) ، وقال بعدها : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) (٤).
ثم اعلم أن التوبة لغة هي الرجوع ولها مراتب ، توبة عن المعصية وهي توبة العوام ، وتوبة عن الغفلة وهي للخواص ، وتسمى الأوبة أيضا ومنه قوله تعالى في حق الأنبياء : (إِنَّهُ أَوَّابٌ) ، أي رجّاع إلى الله بالتوبة ، وفي حق الصلحاء : (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ
__________________
(١) هو الإمام القاضي علي بن علي بن محمد بن أبي العزّ الدمشقي الحنفي المتوفى سنة ٧٩٢ ه.
أشهر مصنفاته شرح العقيدة الطحاوية ، والتنبيه على مشكلات الهداية وغيرها.
(٢) شرح الطحاوية ٢ / ٤٥١.
(٣) الزّمر : ٥٣.
(٤) الزّمر : ٥٤.