____________________________________
حقيقتها خفيّة عن البريّة فيجب على المؤمن أن يؤمن بها ويعتقد أن موجب العقل باطل في وصفها إذ ليس من مجرد شأنه أن يدركها ، وكذلك يقول : كل راسخ في العلم عند حكمها.
قال شمس الأئمة رحمهالله : وهذا لأن المؤمنين فريقان مبتلي بالإمعان في الطلب لضرب من الجهل به ، ومبتلي بالوقوف عن الطلب لكونه مكرما بنوع من العلم فيه ، ومعنى الابتلاء من هذا الوجه ربما يزيد على معنى الابتلاء في الوجه الأول ، فإن الابتلاء بمجرد الاعتقاد مع التوقف في طلب المراد بيان أن العقل لا يوجب شيئا ، ولا يدفع شيئا فإنه يلزمه اعتقاد الحقيّة فيما لا مجال للعقل فيه ليعرف أن الحكم لله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. انتهى.
وحاصله أن الوجه الثاني هو الأقوى فإنه إيمان بالأمر الغيبي اللّاريبي الذي لا حظّ للعقل فيه ، ولا لذة للطبع ، بل مجرد اتّباع الحق على ما ورد به السمع من جانب الشرع بخلاف الأول حيث اعتمد على عقله وعوّل على فهمه ، وبهذا يظهر أن الانقياد في العبادات التعبديّة أفضل وأكمل من غيرها إذ لا حظّ للنفس فيها ، بل محض متابعة أمر الحق في تحصيله ، ومن ثم قال الله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١) ، وورد لا أدري نصف العلم ، وقيل : العجز عن درك الإدراك إدراك ، وقد سئل عليّ رضي الله عنه عن مسألة فقال : لا أدري ، وهو على المنبر ، فقيل له : كيف تطلع فوق هذا المقام الأنور ، وتقول : لا أدري في جواب السؤال الأزهر؟ فقال : إني صعدت بقدر علمي بالأشياء ، ولو طلعت بمقدار جهلي لبلغت السماء.
وقد وقع لأبي يوسف رحمهالله مثل هذا السؤال وأجاب بذلك المقال ، فقيل له : إنك تأخذ كذا وكذا من بيت المال وتعجز عن تحقيق هذا الحال ، قال : نعم أنا آخذ المال على قدر علمي ، ولو أخذت على قدر جهلي لاستوعبت جميع الأموال ، وقد كرر الإمام الأعظم رحمهالله ذكر الإرادة هنا تحقيقا لكونها صفة قديمة لله تعالى تخصّص المكوّنات بوجه دون وجه في وقت دون وقت وردّا على الكرامية وبعض المعتزلة من أن إرادته حادثة ، وأما جمهورهم فأنكروا إرادته للشرور والقبائح حتى يقولوا : إنه سبحانه وتعالى أراد من الكافر والفاسق إيمانه وطاعته لا كفره ومعصيته زعما منهم أن إرادة القبيح
__________________
(١) الإسراء : ٨٥.