لأنه أمر به ، لأنّ معنى قول إبراهيم (ع) كما ورد في التنزيل (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) [الآية ١٠٢] : أنّه أمر بذبحه في المنام ، ورؤيا الأنبياء حقّ ؛ فإذا رأوا شيئا في المنام ، فعلوه في اليقظة ، كذا قاله قتادة ؛ والدليل على أنّ منامه كان وحيا بالأمر بالذبح ، قوله تعالى حكاية على لسان ولد ابراهيم (ع) : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) [الآية ١٠٢]؟
قلنا : لم يشاوره ليرجع إلى رأيه في ذلك ، ولكن ليعلم ما عنده من الصّبر ، فيما نزل به من بلاء الله تعالى ، فيثبّت قدمه إن جزع ، ويأمن عليه الزّلل إن صبر وسلّم ، وليعلم القصّة فيوطن نفسه على الذّبح ، ويهوّنه عليها ، فيلقى البلاء وهو كالمستأنس به ، ويكتسب الثواب بالانقياد والصبر لأمر الله تعالى قبل نزوله ، وليكون سنّة في المشاورة ؛ فقد قيل لو شاور آدم الملائكة في أكل الشجرة ، لما فرط منه ذلك.
فإن قيل : لم قيل له : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [الآية ١٠٥] وإنّما يكون مصدّقا لها ، لو وجد منه الذّبح ، ولم يوجد؟
قلنا : معناه قد فعلت غاية ما في وسعك ، ممّا يفعله الذابح ، من إلقاء ولدك ، وإمرار الشفرة على حلقه ؛ ولكنّ الله تعالى منع الشفرة أن تقطع. وقيل : إنّ الّذي رآه في المنام معالجة الذبح فقط ، لا إراقة الدم ؛ وقد فعل ذلك في اليقظة ، فكان مصدّقا للرؤيا.
فإن قيل : أين جواب «لمّا» في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما) [الآية ١٠٣]؟
قلنا : قيل هو محذوف تقديره : استبشرا ، واغتبطا ، وشكرا لله تعالى على ما أنعم به عليهما من الفداء ؛ أو تقديره : سعدا ، أو أجزل ثوابهما. وقيل الجواب هو قوله تعالى : (وَنادَيْناهُ) [الآية ١٠٤] والواو زائدة كما في قول امرئ القيس :
فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل أي فلمّا أجزنا ساحة الحي انتحى ، كذا نقله ابن الأنباري في شرحه.
فإن قيل : لم قال تعالى في قصة إبراهيم (ع) : (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠)) وفي غيرها من القصص قبلها وبعدها : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠)).
قلنا : لمّا سبق في قصة إبراهيم (ع) مرة : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠)) طرحه في الثاني تخفيفا واختصارا