١٣٤ ـ وإن العرب كانوا يميلون إلى الإيجاز فى القول ، ويعدون الإيجاز بلاغة ؛ وذلك لأنهم لم يكونوا أهل قراءة وكتابة ، بل كانوا أهل بيان باللسان ، وقد صقلت بذلك كلماتهم وهذبت عباراتهم ، وقد قال الجاحظ أن الإيجاز فى القرآن كان عند محاجة العرب الأميين الذين يفهمون القول بالكلمات المشيرة غير المفصلة ، والتفصيل من شأن من يعتمد على الكتاب دون اللسان.
ولقد كانوا يتبارون فى الكلام الذى تدل ألفاظه على معان كثيرة وكانوا يعدون من أبلغ كلامهم قول بعض العرب : «القتل أنفى للقتل» أى من يريد القتل إذا علم أنه سيقتل ، فإنه لا يقتل. ولا شك أن ذلك حق ، وقد اتجه كثيرون من الأدباء والمفسرين إلى الموازنة بين ما يدعونه أبلغ قولهم ، وقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) والموضوع أيهما أبلغ وأجمل أداء ، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى.
وقد عقد الرمانى فى رسالته موازنة بين الجملتين ، وإن كانت الموازنة ليست بين متماثلين ، بل ليست بين متقاربين ، وإن كان الموضوع متقاربا فقال :
وقد استحسن الناس من الإيجاز قولهم : «القتل أنفى للقتل» وبينه وبين لفظ القرآن تفاوت فى البلاغة والإيجاز وذلك يظهر من أربعة أوجه : أنه أكثر فى الفائدة ، وأوجز فى العبارة ، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة ، وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة ، أما الكثرة فى الفائدة ففيه كل ما فى قولهم : «القتل أنفى للقتل» وزيادة معان حسنة منها إبانة العدل لذكره القصاص ، ومنها إبانة القرب المرغوب فيه لذكره الحياة ، ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله تعالى ، وأما الإيجاز فى العبارة فإن الذى هو نظير القتل أنفى للقتل «القصاص حياة» والأول أربعة عشر حرفا والثانى عشرة أحرف وإنما بعده عن الكلفة بالتكرار الذى فيه مشقة على النفس ، فإن فى قولهم القتل أنفى للقتل تكرارا ، غيره أبلغ منه ، ومتى كان التكرار فهو مقصر فى باب البلاغة عن أعلى طبقة ، وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فهو مدرك بالحس وموجود فى اللفظ ، فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة ، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة ، فاجتماع هذه الأمور التى ذكرناها صار أبلغ وأحسن وإن كان الأول بليغا حسنا».
وهناك وجه لم يذكره الرمانى ، وهو أن كلمة العرب مقصورة على القتل أما كلمة الله تعالى ، فإنها تشتمل القتل والاعتداء على الأطراف ، فتشمل النفس بالنفس والعين بالعين ، والأنف بالأنف والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، بل تشمل أيضا الجروح ، فمعناها أشمل. وأمر آخر لم يذكره الرمانى ، وهو أن كلمة القرآن إيجابية وسلبية معا ، فهى إيجابية فى أنها تبين أن ثمة حياة رافهة هادية أمينة بالقصاص ، وفيها معنى النفى ،