والشيء المحقّق أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) قد اهتمّ اهتماماً بالغاً بتكييف حالة المسلمين وتقرير مصيرهم ، واستمرار حياتهم في طريقها إلى التطور في مجالاتها الاجتماعية والسياسية ، ورسم لها الطريق على أساس من المنهج التجريبي الذي لا يخضع بأيّ حال لعوامل العاطفة أو المؤثرات الخارجية ، فعيّن لها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) لقيادتها الروحية والزمنية ؛ وذلك لِما يتمتع به من القابليات الفذّة التي هي بإجماع المسلمين لم تتوفر في غيره ، ولعلّ من أهمّها ما يلي :
١ ـ إحاطته بالقضاء ، فقد كان المرجع الأعلى للعالم الإسلامي في ذلك ، وقد اشتهرت مقالة عمر فيه : لولا علي لهلك عمر.
ولم ينازعه أحد من الصحابة في هذه الموهبة ، فقد أجمعوا على أنّه أعلم الناس بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبصرهم بأمور الدين وشؤون الشريعة ، وأوفرهم دراية في الشؤون السياسية والإدارية ، وعهده لمالك الأشتر من أوثق الأدلّة على هذا القول ؛ فقد حفل هذا العهد بما لم يحفل به أيّ دستور سياسي في الإسلام وغيره ، فقد عنى بواجبات الدولة تجاه المواطنين ومسؤوليتها بتوفير العدل السياسي والاجتماعي لهم.
كما حدّد صلاحيات الحكّام ومسؤولياتهم ، ونصّ على الشروط التي يجب أن تتوفر في الموظف في جهاز الحكم من الكفاءة ، والدراية التامّة بشؤون العمل الذي يعهد إليه ، وأن يتحلّى بالخلق والإيمان ، والحريجة في الدين ، إلى غير ذلك من البنود المشرقة التي حفل بها هذا العهد ، والتي لا غنى للاُمّة حكومةً وشعباً عنها.
وقد ألمعت كثير من رسائله إلى ولاته وعمّاله بالشؤون السياسية التي دلّت على أنه ألمع سياسي في الإسلام وغيره ، وكما كان أعلم المسلمين بهذه الاُمور ، فقد كان من أعلمهم بسائر العلوم الاُخرى ؛ كعلم الكلام والفلسفة وعلم الحساب وغيرها ، وقد فتق أبواباً كثيرة من العلوم تربو على ثلاثين علماً حسب ما يقول المترجمون له ، ومع هذه الثروات العلمية الهائلة