ولو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام ، وعزّة لا تضام ، وملك تمتدّ نحوه أعناق الرّجال ، وتشدّ إليه عقد الرّحال ، لكان ذلك أهون على الخلق فى الاعتبار (١) ، وأبعد لهم فى الاستكبار ، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم ، فكانت النّيّات مشتركة ، والحسنات مقتسمة ، ولكنّ اللّه ـ سبحانه ـ أراد أن يكون الاتّباع لرسله ، والتّصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستكانة لأمره ، والاستسلام لطاعته ، أمورا له خاصّة لا يشوبها من غيرها شائبة وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم ، كانت المثوبة والجزاء أجزل.
أ لا ترون أنّ اللّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم ، صلوات اللّه عليه ، إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ، (٢) ولا تسمع ولا تبصر.
فجعلها بيته الحرام الّذى جعله للنّاس قياما ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض
__________________
(١) أى : أضعف تأثيرا فى القلوب من جهة اعتبارها واتعاظها ، وأبعد للناس ـ أى : أشد : توغلا بهم فى الاستكبار ـ لأن الأنبياء يكونون قدوة فى العظمة والكبرياء حينئذ. وقوله «فكانت النيات مشتركة» أى : لأن الايمان لم يكن خالصا للّه ، بل أعظم الباعث عليه الرغبة والرهبة
(٢) الأحجار : هى الكعبة ، والنتائق : جمع نتيقة ، وهى البقاع المرتفعة. ومكة مرتفعة بالنسبة لما انحط منها من البلدان ، والمدر : قطع الطين اليابس ، أو العلك الذى لا رمل فيه ، وأقل الأرض مدرا لا ينبت إلا قليلا