ومع أنّ بعض المفسّرين اعتبر تعبير نوح هذا أو أمثاله في تاريخ سائر الأنبياء نوعا من الإعجاز ، لأنّهم مع عدم امتلاكهم الإمكانيات الظاهرية فإنّهم كانوا يهدّدون العدو بالهزيمة ، وأعلنوا خبر انتصارهم النهائي ، وهذا لا يمكن قبوله إلّا عن طريق الإعجاز ، إلّا أنّ هذا على كل حال درس كبير لكل القادة الإسلاميين بأن لا يخافوا ولا ينهاروا أمام عظمة الأعداء وكثرتهم ، بل إنّهم باتكالهم على الله كانوا يدعون هؤلاء إلى الميدان بكل حزم واقتدار ويستصغرون قوتهم ، فكان هذا عاملا مهمّا في تقوية معنويات الأتباع والمؤيدين ، وتدمير معنويات العدو وانهيارها.
وذكرت الآية التّالية بيانا آخر عن نوح من أجل إثبات أحقيته ، هناك حيث تقول : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ (١) إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ، فإنّي أعمل له ، ولا أريد الأجر إلّا منه (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
إنّ مقولة نوح هذه درس آخر للقادة الإلهيين بأن لا يتوقعوا أي جزاء مادي ومعنوي من الناس لقاء دعوتهم وتبليغهم ، لأنّ هذا التوقع يوجد نوعا من التعلق النفسي الذي يؤدي الى عرقلة أساليب الدعوة الصريحة والنشاطات الحرة ، ومن الطبيعي عن ذلك أن يقلّ تأثير دعوتهم وإبلاغهم ، ولهذا السبب فإنّ الطريق الصحيح في الدعوة إلى الإسلام أن يعتمد المبلّغون والداعون في إدارة أمورهم المعاشية على بيت المال فقط ، لا بالاحتجاج إلى الناس!
وتبيّن الآية الأخيرة عاقبة ومصير أعداء نوح ، وصدق توقعه وقوله السابق بهذه الصورة : (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) (٢) ولم ننقذهم وحسب ، بل
__________________
(١) جواب هذا الشرط محذوف أيضا ، وتقديره : فإن توليتم فلا تضروني ، أو : فإن توليتم فأنتم وشأنكم.
(٢) «الفلك» بمعنى السفينة ، والفرق بينها وبين السفينة أن سفينة مفرد وجمعها سفائن أم الفلك فإنّها تطلق على المفرد والجمع.