أجنح إنساني في كل جانحة ، وأنطق لساني من كل جارحة ، وأهيم وقلبي رهين الأنين ، وصريع البين ، تهفو (١) الرياح البليلة إذا ثارت ، وتطير به أجنحة البروق الخافقة أينما طارت ، وقد كنت أستنزل قربهم براحة الأجل ، وأقول عسى وطن يدنيهم ولعلّ ، وما أقدر الله أن يدني على الشّحط ، ويبري جراح البين بعد اليأس والقنط ، هذا شوقي يستعيره البركان لناره ، ووجدي لا يجري قيس في مضماره ، فما ظنّك وقد حمت حول المورد الخصر ، ونسمت ريح المنبت الخضر ، ونظرت إلى تلك المعاهد من أمم ، وهمست باهتصار ثمار ذلك المجد اليانع والكرم ، وإن المحبّ مع القرب لأعظم همّا ، وأشدّ في مقاساة الغرام غمّا : [الوافر]
وأبرح ما يكون الشوق يوما |
|
إذ دنت الدّيار من الديار |
وقربت مسافة الدّوّار ، لكن الدهر ذو غير ، ومن ذا يحكم على القدر ، وما ضرّه لو غفل قليلا ، وشفى بلقاء الأحبّة غليلا ، وسمح لنا بساعة اتفاق ، ووصل ذلك الأمل القصير بباع ، وروى مسافة أيام ، كما طوى مراحل أعوام.
لدّ إبليس ، أفلا أشفقت من عذابي ، وسمحت ولو بسلام أحبابي؟
أسلمتني إلى ذرع البيد ، ومحالفة الذميل والوخيد (٢) ، والتنقّل في المشارق والمغارب ، والتمطّي في الصّهوات والغوارب. يا سابق البين دع محمله ، وما بقي في الجسم ما يحمله ، ويا بنات جديل ، ما لكنّ وللذميل؟ ليت سقمي عقيم فلم يلد ذات البين ، المشتّتة ما بين المحبين ، ثم ما للزاجر الكاذب ، وللغراب الناعب ، تجعله نذير الجلا ، ورائد الخلا ، ما أبعد من زاجر ، عن رأي الزّاجر ، إنما فعل ما ترى ، ذات الغارب والقرى ، المحتالة في الأزمّة والبرى ، المتردّدة بين التّأويب والسّرى ؛ طالما باكرت النّوى ، وصدعت صدع الثّوى ، وتركت الهائم بين ربع محيل ، ورسم مستحيل ، يقفو الأثر نحوه ، ويسأل الطّلل عن عهده ، وإن أنصفت فما لعين معقودة ، وإبل مطرودة ، مالت عن الحوض والشّوط ، وأسلمت إلى الحبل والعصا والسّوط ، ولو خيّر النائي لأقام ، ولو ترك القطا ليلا لنام ، لكن الدهر أبو براقش (٣) ،
__________________
(١) في الأصل : «تهفق».
(٢) الذّميل : السير اللين. والوخيد : السير السريع. لسان العرب (ذمل) و (وخد).
(٣) أبو براقش : طائر صغير برّيّ كالقنفذ أعلى ريشه أغرّ وأوسطه أحمر وأسفله أسود ، فإذا هيّج انتفش فتغيّر لونه ألوانا شتّى حتى قيل لكل متلوّن ذي وجهين : أحول من أبي برقش ، ومنه قول الشاعر : [مجزوء الكامل]
كأبي براقش كلّ يو |
|
م لونه يتقلّب |
محيط المحيط (برقش).