وقالوا : في هذه الساعة كسر الخليج بمصر وفاض ماء النيل على أرض مصر لأن ذلك يتبين لهم بجزر الماء دفعة فلو كان سبيلا وهم على أعلا المصب ، لقالوا : قد أرتفع المطر عن الأرض التي تسيل منها السيل ومنها أن القسمة الذى يمر ببلاد الحبشة المنبعث وأياه من جبل القمر لا يفيض كمدة فيض النيل ثلاثة [ق ٦٣ ب] أشهر ولا يقيم على وجه الأرض مدة مقامه لكنه إذا كثر فيه السيل غمر جوانبه على قدر انبساطها فإذا قضيت مادته أردع عليه فلو كان فيض النيل عن السيل وهما من شعب واحد لكان شأنهما واحدا.
ولا نقول أن سبب فيض النيل البحر فقط إذ لو لا كونه سيل ماء لما دخل ردع البحر إليه ولكان شاطيء ديار مصر كسائر السواحل المجاورة ولو لا السيل السائل فيه لردمه البحر إذ عادة البحر ردم السواحل ، وإنما دخل الشك علي أهل مصر أمر النيل لأنهم لم يشاهدوا منشأه ، ولا عاينوا مبدأ من جبل القمر في موضع لا ساكن ولم تحققوا المد السنوى الرادع فلم يتحققوا شيئا من أمره لأنه بعيد من أذهان العامة أن يعلموا أن ماء البحر يعظم فى أيام الصيف لأن المعهود عندهم في البحر أن يعظم فى أيام الشتاء وطموا البحر في الشتاء إنما يكون عن الرياح الهابة عليه من أحد جانبيه ، فقبض ويخرج إلى الجانب الآخر إلا ما كان من البحر المحيط فإنه [ق ٦٤ أ] يتحرك أبدا من دواخل البحر إلى البر ، وهو أن المحيط يطلب بطبعه أن تكون على وجه الأرض لست بسيطة فهى تمانعه بما فيها من التركيب فهو يطلب أبدا أن يعلوها ويركبها ببردها.
ومن ناظر النيل علم أن سيلا سأل فيه ولا بد ، فإنه لا يزال أيام الشتاء وأوائل فصل الربيع ماؤه صافيا من الكدرة ، فإذا قربت أيام زياته وكان فى غاية نقصه تغير طعمه ومال لونه إلى الخضرة ، وصار بحيث إذا وضع فى أناء يرسب منه شبه أجزاء صغيرة من طحلب. وسبب ذلك أن البطيحة التى فى أعالى الجنوب تردها الفيلة ونحوها من الوحوش حتي يتغير ماؤها ، فإذا كثرت أمطار (١) الجنوب في فصل الصيف وعظمت السيول الهابطة في هذه البطيحة ، فاض منها ما تغير من الماء ، وجرى إلى أرض مصر ، فيقال عند ذلك وتوحم النيل.
ولا يزال الماء كذلك حتى يعقبه ماء متغير ويزداد عكره بزيادة الماء ، فإذا وضع فيه أيام الزيادة متى في إناء رسب بأسفله طين لم يعهد فيه قبل أيام الزيادة ، وهذا الطين هو الذى
__________________
(١) وردت في الأصل «أمطه» والصواب فى المتن.