اليهود شيئا ومن النصارى شيئا فقد كانت لقريش مخالطة مع نصارى الشام في رحلتهم الصيفية إلى الشام ، لأن قصة أهل الكهف لم تكن من أمور بني إسرائيل وإنما هي من شئون النصارى ، بناء على أن أهل الكهف كانوا نصارى كما سيأتي في سورة الكهف ، وكذلك قصة ذي القرنين إن كان المراد به الإسكندر المقدوني يظهر أنها مما عني به النصارى لارتباط فتوحاته بتاريخ بلاد الروم ، فتعين أن اليهود ما لقنوا قريشا إلا السؤال عن الروح. وبهذا يتضح السبب في إفراد السؤال عن الروح في هذه السورة وذكر القصتين الأخريين في سورة الكهف. على أنه يجوز أن يتكرر السؤال في مناسبات وذلك شأن الذين معارفهم محدودة فهم يلقونها في كل مجلس.
وسؤالهم عن الروح معناه أنهم سألوا عن بيان ماهية ما يعبر عنه في اللغة العربية بالروح والتي يعرف كل أحد بوجه الإجمال أنها حالّة فيه.
والروح : يطلق على الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الإنساني الذي دلت عليه آثاره من الإدراك والتفكير ، وهو الذي يتقوم في الجسد الإنساني حين يكون جنينا بعد أن يمضي على نزول النطفة في الرحم مائة وعشرون يوما. وهذا الإطلاق هو الذي في قوله تعالى: (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٢]. وهذا يسمى أيضا بالنفس كقوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) [الفجر : ٢٧].
ويطلق الروح على الكائن الشريف المكون بأمر إلهي بدون سبب اعتيادي ومنه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] وقوله : (وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١].
ويطلق لفظ (الروح) على الملك الذي ينزل بالوحي على الرسل. وهو جبريل ـ عليهالسلام ـ ومنه قوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣].
واختلف المفسرون في الروح المسئول عنه المذكور هنا ما هو من هذه الثلاثة. فالجمهور قالوا : المسئول عنه هو الروح بالمعنى الأول ، قالوا لأنه الأمر المشكل الذي لم تتضح حقيقته ، وأما الروح بالمعنيين الآخرين فيشبه أن يكون السؤال عنه سؤالا عن معنى مصطلح قرآني. وقد ثبت أن اليهود سألوا عن الروح بالمعنى الأول لأنه هو الوارد في أول كتابهم وهو سفر التكوين من التوراة لقوله في الإصحاح الأول «وروح الله يرف على وجه المياه». وليس الروح بالمعنيين الآخرين بوارد في كتبهم.