من صفات الجندي التركي أنه يدور حول العسكر فوق الخيول ويحيط بعدوّه بأسرع ما يكون ويشتت شمله ، لا يعرف الفرار فهو في الحرب طالب غير مطلوب. لا يغتر بعظم جثة الفرس بل هو ينتقي خيولا مدربة لا يسبقها غيرها يستنتجها عنده ويركبها وهي فلوّ (١) ويسميها بأسماء يناديها بها فتتبعه.
كل واحد من فرسان الأتراك فارس وسائس وبيطار وحدّاد وراع. وكل واحد منهم ماهر في هذه الصنائع لا يحتاج فيها إلى غيره. إذا اجتمعت قوة الجندي الفارسي والعراقي والخارجي في شخص واحد لا يعادل ذلك الشخص واحدا من الأتراك. الجيش التركي يقطع مسافة عشرين ميلا في زمن يقطع فيه غيره عشرة أميال ، فإنه يفارق سائر العساكر ويميل إلى اليمين والشمال وينزل إلى بطون الأودية ويصعد إلى قمم الجبال ويصيد بهذه الكيفية الهاربين من أعدائه ولو كانوا من مشاهير الأبطال.
متى وقع اليأس من الصلح والمسالمة وتقرّر الحرب فإن الأتراك يدافعون عن أنفسهم بتحصين مواقعهم العسكرية ويبذلون في ذلك غاية جهدهم من غير أدنى فتور. ومن علو همتهم وصفاء مداركهم لا يخطر بخواطر أعدائهم انتهاز الفرصة عليهم أو التشبث بحيلة ما لإغفالهم (٢).
قال يزيد بن مزيد في وصف الأتراك : لا ثقلة لأبدان الأتراك على الفرس والأرض. والتركي يدرك الشيء الذي يجيء من ورائه كما يدركه من أمامه ، حال كون فرساننا لا يرون الذي يجيء من أمامهم. والجندي التركي يعدّنا صيدا ويعدّ نفسه أسدا وفرسه حيّة. وإذا ألقي الجندي التركي في بئر مربوط اليد يخلّص نفسه منها من غير أن يتشبث بحيلة.
والجنود الترك يميلون بالطبع إلى الكفاف ، ويرجحون ما ينالونه بسهولة على كل شيء سواه ، ويحبون أن يكون قوتهم من الصيد وأموال الغنائم ، ويثبتون فوق ظهور خيولهم طالبين أو مطلوبين من غير هرب ولا فرار.
قال ثمامة بن الأبرش (٣) : حينما كنت أسيرا بأيدي الأتراك رأيت منهم لطفا وإكراما
__________________
(١) يستنتجها : أي تتوالد عنده. والفلوّ ، بضم الفاء واللام وتشديد الواو. مفردها : فلوّ ـ بفتح الفاء وسكون اللام ، وهو : المهر إذا فطم وبلغ السنة.
(٢) يترخص المؤلف هنا في التعبير ، ولا سيما في قوله : «لإغفالهم» وهو يريد مهاجمتهم على حين غرّة ، أو على غفلة منهم.
(٣) كذا ، والصواب «ثمامة بن أشرس» كان فصيحا بليغا عاصر الرشيد والمأمون.