بالمال ، وأصبحوا مدة قرنين عونا على الملوك العثمانيين بعد أن كانوا عونا لهم ، فكان قيامهم على أولياء أمورهم في مدد متواصل وإثارتهم الفتن والقلاقل في البلاد ، وتسلطهم على الرعايا ، في استمرار غير منقطع. وفي كثير من الأوقات بينما كانت الدولة في ارتباك وشغل شاغل من أمر أولاء الجنود ؛ كانت روسيا ترهقها بالحرب اغتناما لفرصة اشتغالها بتسوية أمور داخليتها.
وكان سبب بلوغ الانكشارية تلك الدرجة من العتوّ والتمرد غلطة الصدر الأول من الملوك العثمانيين ، وهي أنهم كانوا يبالغون بالإحسان إلى الانكشارية ويعاملونهم معاملة الوالد الشفوق على ولده الوحيد حتى نبهتهم تلك المعاملة إلى عظم شأنهم وعرفتهم أنهم هم روح المملكة وأولياء نعمة ملوكها وشعوبها ، فهاموا بهذه الخيالات وطغوا وبغوا ، وأصبحت المملكة العثمانية في أيديهم كسفينة تتقاذفها عواصف شرورهم ، فلم يستطع السلاطين ردعهم ووقف تيار غلبتهم إلا بعد مشقات عظيمة أشرنا إلى بعضها في الإجمال الذي ذكرناه في هذا الجزء تحت عنوان «نبذة في الكلام على هذه الطائفة» فراجعه.
أسباب سرعة سقوط العراق والشام :
لا ريب في أن سرعة سقوط العراق والشام في يد إنكلترة وخروجهما من يد العثمانيين لم يكن إلا بسبب تقاعد أهل هذه البلاد عن مظاهرة جيوشهم وشدّ أزرهم ، خصوصا أهل العراق وأهل سوريا الجنوبية من حضر وبدو فإنهم لم يقنعوا بالتقاعد عن نصرة تركيا فحسب ، بل ظاهروا جيوش الدولة البريطانية وأعانوهم على الجيوش العثمانية بكل ما استطاعوا ، فاستولت جيوش إنكلترة على هذه البلاد بأقرب وقت ، ولو لا ذلك لما تمكنت هذه الجنود من الاستيلاء عليها في أقل من بضع سنوات إن لم يحدث في الكون ما يعوق استيلاءهم عليها ويبقيها في يد العثمانيين.
على أن لمظاهرة أهل تلك البلاد الجيوش البريطانية أسبابا عديدة أخص منها بالذكر هنا نفرة قلوب أهلها من تركيا بسبب أغلاط ارتكبها الاتحاديون اغترارا بأنفسهم.
وكان بعض المحامين عنهم يعتذر لهم بقوله : إن جميع ما أتوا به من الأسباب التي نفّرت قلوب الرعية لم يقصدوا بها سوى المصلحة العامة دون المصلحة الخاصة ، وإنهم لم يفعلوه إلا بنيّة خالصة وغرض عام ، غير أن الأقدار لم تساعدهم فما كان غلطهم إلا من قبيل