بينما كان واقفا على باب مسجد أشقتمر ـ المعروف بجامع السكاكيني ـ إذ مرت عليه شرذمة من الثوار فنادوه : «شيخ امشي معنا». فقال لهم : اسبقوني حتى ألبس ثيابي وألحقكم. ثم دخل إلى الجامع وأغلق بابه ولم يخرج منه إلا بعد أيام. هذا وإن النهب لم يزل يجري أحكامه إلى اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة وكان البدوي قد ينهب الشيء من أثاث المنزل وهو لا يعرف ما ذا يراد من استعماله. وصادف أن بدويا نهب ساعة دقاقة ظنها صندوقا فيه نقود ، وبينما هو سائر بها إذ دقت الساعة فارتاع منها وحسب أن فيها جنيا فبصق عليها وطرحها إلى الأرض فتحطمت. ورأى بدوي في بعض البيوت كيسا فيه لؤلؤ ظنّه رزا فحمله فلما كان في أثناء الطريق ذاقه فلم تقطعه أسنانه فحسبه خرزا فرماه إلى الأرض فتبعثر وسحق تحت الأقدام.
في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة وقف النهب لأن الأعيان والحكومة أرسلوا إلى زعماء الثائرين يؤمنونهم مما يخافون ، ويتعهدون لهم بما يطلبون. وفي اليوم الثالث عشر من هذا الشهر ترددت الرسل بين الطرفين واستقرت القاعدة على أن يكون عبد الله بك هو المفوض بالأمور ، وأن تستثنى حلب من القرعة العسكرية ومن عدة ضرائب أميرية ، وأن يسامح عبد الله بك ورفقاه من أموال المقاطعات المتأخرة في ذممهم ، وأن لا يسترق النصارى الإماء والعبيد المسلمين ، وأن يمتازوا عن المسلمين بعلامات فارقة ، إلى غير ذلك من الطلبات والاقتراحات. والذي اضطر الحكومة أن تجيبهم إلى ما طلبوا خلوّ القلعة والرباط العسكري من الحامية ، إذ لم يكن موجودا فيهما سوى مائتي جندي. وبعد أن استقر الصلح على الشروط المذكورة أقام الثوار سلطانا عليهم ابن حميدة ، فجعل وزيره عبد الله بك وصار ابن حميدة يأمر وينهى كسلطان قاهر. وكان الأعيان والوجهاء قد نزلوا من الرباط إلى تكية بابا بيرم ، وبقي الوالي في الرباط لشدة جبنه وخوفه.
ولم يقتل من النصارى في هذه الحادثة سوى خمسة نفر قتلوا لا عن قصد انتقام سوى واحد منهم : فالأول : القس جبرائيل الكلداني استمات على حفظ أمانات للكنيسة كانت عنده فقتل وأخذت الأمانات. الثاني : أخو القسيس السرياني ، احترق في كنيسة السريان تبعا لها لأنها احترق معظمها. وكان المسبب بإحراقها شماس موكل بحفظ ما فيها من الآثار الفضية فسرقها وألقى النار في الكنيسة وادعى أن النار هي التي أتت على الآثار. الثالث : رجل يقال له ابن القصاب ، وهو الذي قتل عمدا لأنه كان يؤذي المسلمين بما كان يجريه