التي سارت على سننهما الهيئة الاجتماعية من الطائفة الأرمنية التي مضى على مجاورتنا إياها بضع سنوات غبّ أن هاجرت إلى حلب بعد الحرب العالمية ، وقد أصبح فيها منهم العدد الكبير الذي يقدر بستين ألف نسمة ، فنقول :
الأرمن ـ مهما اختلفت أجناسهم وتباينت أقطارهم ـ أمة نشيطة جدية عاملة منصرفة عقليتها إلى الماديات دون المعنويات ، وهي ثابتة في مقاصدها قوية الإرادة في منازعها ، تمارس من صعاب الأمور ما يعجز عنه غيرها من أمم الشرق ، لا تعتمد إلا على نفسها ولا يعوقها عائق في سبيل غاية تطلبها. ترى كل فرد من أفرادها ـ ذكرا كان أم أنثى ، كبيرا كان أم صغيرا ـ مكبّا على عمله مهرولا إلى حانوته مبكرا لمزاولة مهنته التي ارتضتها له قوة جسمه وسعة مداركه ، فمنهم التجار بأنواع البضائع الشرقية والغربية ، ومنهم الصيدلي والطبيب والمحامي ، والمهندس والصرّاف والخادم والكاتب ، والميكانيكي والخياط والحائك ، والنجار والحداد والحجّار ، والمعمار والطاهي واللحّام ، وصاحب المقهى والمنزل ، وبائع الخضر والبقول ، وغير ذلك من المهن التي لا تخلو واحدة منها ، شريفة كانت أم حطيطة ، إلا والمشتغلون بها من الأرمن عدد كبير يزاولونها باعتناء وإتقان لا مزيد عليهما. وهم ـ على اختلاف مهنهم وحرفهم ـ يقنعون بالربح اليسير ويقتصدون بالإنفاق على أنفسهم ، الأمر الذي أكسد سوق نظرائهم من الحلبيين وضيّق عليهم أسباب معايشهم ، لأنهم لا يقنعون بالربح اليسير لتعوّدهم على التوسع بالإنفاق دون الاقتصار على ضروريات الحياة.
كل فرد من أمة الأرمن ـ ذكرا كان أم أنثى ـ لا يرضى أن يكون عاطلا عن العمل متقاعدا عن الاحتراف ، ولذا لا ترى منهم متسوّلا ولا متشردا ، ولا من هو عيلة على غيره ، سوى من أعجزته العاهات والزّمانات (١) عن النهوض بعمل ما ، وسوى الأيتام الذين ليس لهم مال ولا أولياء ينفقون عليهم ، فإن هؤلاء الجماعة قد تكفلت بإعاشتهم الجمعيات الخيرية الأرمنية المؤلفة في حلب وغيرها من بلاد أميركا وأوربا ، ففتحت لهم دور العجزة والمياتم والمدارس ، وأغنتهم عن الحاجة إلى غيرهم وعنيت بأمورهم أحسن عناية.
__________________
(١) الزّمانات : جمع زمانة ، وهي المرض الدائم (المزمن).