تمكن الديوان من تحضير بعض العشائر البدوية وإسكانها في قرى حقيرة بنيت لهم في تلك البراري. ومن ذلك اليوم عادت روح العمار تدبّ رويدا رويدا في جهتي الشرق والجنوب من ولاية حلب ، وجهة الجزيرة التي عاصمتها الرقة.
ولما جلس السلطان عبد الحميد خان على كرسي المملكة العثمانية سنة (١٢٩٣) اهتم بهذه المسألة اهتماما عظيما وأسس لها في استانبول ديوانا خاصا سماه (خزينه خاصه نظاره سى) نظارة الخزينة الخاصة. وجعل له فرعا في كل بلدة يوجد في برّها أراض موات ، سماه إدارة الجفتلك الهمايوني. فاجتهدت هذه الإدارة بإعمار القرى على أطلالها القديمة وأسكنتها جماعة من العربان وقدّمت لهم ما يحتاجونه من الدواب والمؤنات وآلات الحراثة ، وسامحتهم من الجندية وسائر الضرائب الأميرية سوى رسوم عدّ الغنم التي توجد في هذه القرى أو التي تمر منها ، وسوى الأعشار وكومة الطابو ، فإن الإدارة جرت في أخذها من الزراع على قاعدة سمّتها التخمين ، وهي أن يقدر أهل الخبرة البيدر ـ قبل أن يدرس ـ بقدر معلوم من الحب ويكتب على صاحبه سبعة عشر في المئة من مجموع الحبّ المقدر ، عشرة من هذه السبعة عشر هي العشر الشرعي ، والباقي ـ وهو سبعة أجزاء ـ أجرة الأرض وتسمى كومة الطابو ، وبعد أن تتم دراسة البيدر ويتمحض الحب يحمل صاحبه القدر المفروض عليه إلى المستودع المعين لناحيته ويسلّمه إلى حافظ المستودع ويأخذ به وصلا. وكانت إدارة الجفتلك هذه تأخذ العشر الشرعي أيضا لنفسها مع أن العشر حق بيت المال كما لا يخفى.
وقد نجحت هذه الفروع في أعمالها ، وجد في ولاية حلب قرى كثيرة يربو عددها على الخمسمائة ، وكثر عدد سكان الرقة واستعمل عليها حاكم صغير باسم مدير ، ثم زاد العمار في جهاتها وأنشأ فيها السلطان جامعا وجعلت مركز قضاء وتعين لها قائمقام. وهكذا كان العمل في منبج. وقد بلغ دخل السلطان من هذه القرى التي هي في شرقي الولاية وجنوبها سبعين ألف ذهب عثماني في السنة المتوسطة بين الخصب والجدب ، وذلك عدا رسوم الأغنام التي كان يستأثر بها السلطان أيضا. ولما خلع هذا السلطان وضعت الحكومة يدها على سائر الأملاك والمزارع المذكورة وسمتها الأملاك المدورة ثم الأملاك الأميرية وصارت تجبي غلاتها على قاعدة التخمين السالفة الذكر إلى جهة خزانة الحكومة ، وألغيت النظارة الخاصة في استانبول وفروعها في خارجها وأنيط النظر في الأملاك المذكورة بدواوين مالية الدولة