الحقير الذي لا يفي باقتياتها سوى يومين من الشهر. وكم جرّت الحاجة أمثال هؤلاء النسوة إلى منتهى درجات التبذل ، حتى صرن يجلسن في الشوارع والطرقات عرضة لخطّاب العهر ينلن منهم دريهمات يصرفنها على القوت الذي يحفظ عليهن رمقهن. ومن هؤلاء النسوة من يعز عليهن شرفهن فلم يرضين أن يحفظن رمقهن ببذل شرفهن ، فاخترن ما هو أخفّ وطأة من هذا ، وصرن يتعاطين السرقة بأنواع الحيل والدسائس فينالهن بسبب هذه المهنة من المكروه والإهانة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. ومنهن من لم ترض بهذا ولا بهذا ؛ بل حملها شرف نفسها على أن تحفظ رمقها بالتسؤّل والجلوس في الشوارع ، ومدّ يدها إلى استعطاف المارّين والعابرين ، فكانت تقضي سائر نهارها ولا تجمع قيمة خمسين درهما من الخبز لأن قيمة مائة درهم منه بلغت ستة قروش.
كان الإنسان السخيّ يتصدق قبل هذه الحرب على واحدة من أمثال هؤلاء الفقيرات بربع القرش ، فتعدّ صدقته كثيرة لأن أكثر الناس يتصدق أحدهم على أمثالها بثمن القرش أو بنصف ثمن القرش ، وكانت الفقيرة تعيش من هذه الصدقة الطفيفة عيشة كافلة حياتها واقية نفسها من كوارث السغب وكواسر العطب. أما بعد حدوث هذه الحرب وارتقاء أسعار الأقوات في أثنائها إلى عشرين ضعفا عما كانت عليه قبلها ؛ صار ذلك الإنسان يتصدق على أمثال تلك الفقيرات بربع القرش ، فترى الفقيرة صدقته جزئية لأنها مهما أعانها الحظ لا يمكنها أن تجمع في يومها ثلاثين ربعا جمعها سبعة قروش ونصف ، وهي قيمة مائة وعشرين درهما من الخبز ، وهو مقدار لا يكفيها وحدها فضلا عن ولدها أو أولادها المتعددين ، فكانت هذه المسكينة تعجّ وتضجّ طول نهارها بل إلى وقت العتمة ، وهي تستجير وتستغيث وتنادي بأعلى صوتها : (جوعانه جوعانه يا أهل الخير) فلا تجد لها راحما ولا مغيثا ، حتى كأن الشفقة قد نزعت من القلوب ثم لا تلبث هذه المنكودة الحظّ حتى يدبّ الضعف في جسمها وأجسام أولادها ، ويستولي عليهم المرض ويكونوا في النهاية فريسة الجوع.
كل هذا ؛ وأكثر كبار المأمورين من ملكيين وعسكريين يجمعون ألوف الليرات بالتسلط على أرزاق العساكر وأموال الدولة والرعية بأنواع أساليب السلب والنهب ويصرفون ما عزّ وهان من ذهبهم الرنان على شراء الحليّ والحلل لنسائهم ، والتغالي فيما يقدمونه لبطونهم وفروجهم ، ولا تأخذهم رحمة ولا تهزهم شكوى في تعاسة هؤلاء الفقراء الذين