وذلك أنه قتل شابا بستانيا لوجود صندوق مدفون في بستانه فيه بعض أثواب بالية ادّعى بعض الفقراء الأرمن أن هذا الصندوق سرق من بيته. وكان هذا الشاب ممن عرف بين سائر أقرانه وأهل حرفته بالتقوى وحسن السيرة ، وهو لا يعرف هذا الصندوق ولا يدري من دفنه في بستانه؟ وقد حلف على ذلك أيمانا مغلّظة وشهد بصلاحه وورعه كثير من الناس ، فلم يصغ جمال لذلك ولم يمهله غير يوم واحد حتى أصبح ذلك المسكين معلّقا ، فبكى عليه كل من يعرفه ودعا على جمال بالهلاك وسوء العاقبة. والمفهوم من بعض حاشية جمال أنه لم يقتل هذا الشاب لسوء ظنه به في مسألة الصندوق ؛ بل هو معتقد أن الرجل عفيف بعيد عن السرقة وإنما قتله لغرض سياسي وهو جعل قتله ـ حين مناقشته الحساب عما أجراه من الفظائع مع الأرمن ـ برهانا على فرط عناية تركيا بحقوق الأرمن وشدة حرصها في حمايتهم وصونهم من التعدي ، حتى إنها قتلت رجلا مسلما لمجرد قيام شبهة عليه في سرقة هكذا صندوق.
ومن الدم الذي أراقه جمال باشا لغرض سياسي يزعمه ، دم شابين من أهل حلب : أحدهما في سن الثانية والعشرين ، والآخر في سن الثامنة والعشرين وهما غضّا الشبيبة منوّرا العقل ، زعم جمال باشا أنهما نددا بظلم الحكومة العثمانية وألبّا عليها جموع العرب ومدحا حكومة العرب الشريفية وندبا الناس إليها. وحقيقة الحال أن الصغير منهما كثرت عليه الديون وضايقه غرماؤه فهرب من وجههم إلى جهة الباب ، واجتمع في إحدى جهاتها على طريق الصدفة بواحد أو اثنين من عرب البادية وذكر لهما في أثناء حديثه معهما شيئا مما يقاسيه أهل حلب من المتاعب والمساغب وتسلّط العسكرية عليهم في هذه الأيام التي هي أيام الحرب العامة ، وحكى لهما أن حضرة الشريف قام الآن على الاتحاديين لينقذ الناس من ظلمهم ليس إلا.
هذا كل ما نسب إلى هذا الشاب وجعل سببا لقتله. وأما الشاب الآخر فإنه لم يخرج من حلب ولا اجتمع بترك ولا عرب ، وليس له ذنب غير كونه صديقا للأول ، ولم تقم عليه شبهة توجب إراقة دمه سوى أن الشرطة لما هجموا على بيته ـ ليفتشوا على أوراق يستخرجون منها شبهة تثبت اشتراكه مع الأول ـ وجدوه يطبخ قهوة البن على أوراق يحرقها ، فقالوا : لو لم يكن في هذه الأوراق ما يدعو إلى الشبهة لما أحرقها. والحال أن هذا الرجل معروف لدى جميع أصحابه أنه معتاد من القدم على أن يطبخ القهوة على نار