ولما كانت ضحوة يوم الجمعة ٢٨ جمادى الأولى سنة ١٣٣٧ و ٢٨ شباط سنة ١٩١٩ م كان الحلبي يتجول في سوق الجمعة ـ وهو سوق عام ينعقد في كل يوم جمعة ، في فضاء واسع يعرف بفضاء تحت القلعة ، يباع فيه من جميع السلع والبضائع ، ويحضره ألوف من الناس ، ومن جملة فروعه فسحة واسعة تباع فيها الخيل والبغال والحمير والبقر ـ وبينما كان مشتري البقرة يتصفح وجوه الناس للبحث عن غريمه الأرمني ، إذ وقع نظره عليه فأسرع نحوه وطلب منه ثمن البقرة. وكان الواجب على الأرمني أن يتلطف بذلك الرجل ويستمهله وفاء ثمن البقرة ويدفع الشرّ بالتي هي أحسن ؛ غير أن نفسه لم تطاوعه على التساهل مع صاحب الحق ، بل طفق يعربد وينكر القضية بتمامها ويفوه بكلام يشقّ على العامة سماعه.
فاشتد النزاع بين الرجلين وعلت أصواتهما في ذلك الجمع العظيم الذي لا يقلّ عن عشرة آلاف إنسان ، ما بين مسلم ومسيحي ويهودي ، وقد هرعت العامة إلى محل المشاجرة ووقفوا ينظرون إلى ما يؤول إليه أمرها. ثم انتقل الحال بين الرجلين من الكلام إلى الملاكمة واللّطام ، وقد أخذا بتلابيب بعضهما ، وانبرى لكل واحد منهما نصراء من قومه يدافعون عنه ويعينونه على خصمه ـ وقد علمت مما تقدم كيف كان توغر صدور الحلبيين وحنقهم على الأمة الأرمنية للقضايا التي أسلفنا بيانها ـ فلما شاهد هذا الجمع النزاع القائم بين هذين الرجلين وعلموا أن المعتدي منهما هو الأرمني ، وأن الأرمن قد التفوا حوله ينصرونه على خصمه ، هاجت الأحقاد في صدورهم وتقدموا يدفعون الأرمني عن الحلبي. فاشتدت الضوضاء وعلا الصراخ وهاج هذا الجمع العظيم وماج ، وانقضّت العامة على الأرمن يضربونهم بالعصي والسكاكين ووزنات الحديد (١) وأعمدة الخشب. فما مضى غير دقائق إلا وجثث بضع (٢) وثلاثين أرمنيا مطروحة على الأرض ، وقد اتصل الصوت ببعض الجهات القريبة من محلات الأرمن فقام بعض الدعّار يهجمون على بيوتهم ويسلبون ما فيها من الأثاث ويقتلون من يعارضهم من أهلها. وكان مجموع ما قتل في هذه الفتنة العمياء مسلم واحد ـ كان مارا في الطريق فرماه أرمني من داخل داره برصاصة فقتله ـ
__________________
(١) أي القطع الحديدية المستعملة في وزن الأشياء ، كالرطل ، ونصف الرطل ، والأوقية ...
(٢) الصواب : «بضعة» لأنها تعامل معاملة الأعداد ٣ ـ ٩ في التذكير والتأنيث.