الثاني : أن فيه آية محذوفة إيجازا واختصارا تقديره : وجعلناها آية وابنها آية ، وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية.
[٥٧٩] فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ١٢] والإبصار من صفات ما له حياة ، والمراد بآية النهار إما الشمس أو النهار نفسه ؛ وكلاهما غير مبصر؟
قلنا : المبصرة في اللغة بمعنى المضيئة ، نقله الجوهري.
وقال غيره : معناه بينة واضحة ، ومنه قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ٥٩] ، أي آية واضحة مضيئة ، وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) [النمل : ١٣].
الثاني : معناه : مبصرا بها إن كانت الشمس ، أو فيها إن كانت النهار ، ومنه قوله تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس : ٦٧] أي مبصرا فيه ، ونظيره قولهم : ليل نائم ونهار صائم : أي ينام فيه ويصام فيه.
الثالث : أنه فعل رباعي منقول بالهمزة عن الثلاثي الذي هو بصر بالشيء ، أي علم به ، فهو بصير ، أي عالم معناه أنه يجعلهم بصراء ، فيكون أبصره بمعنى بصره ، وعلى هذا حمل الأخفش قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) أي تبصّرهم فتجعلهم بصراء.
الرابع : أن بعض الناس زعم أن الشمس حيوان له حياة وبصر وقدرة ، وهو متحرك بإرادته امتثال أمر الله تعالى كما يتحرك الإنسان! [٥٨٠] فإن قيل : ما الفائدة في ذكر عدد السنين ؛ مع أنّه لو اقتصر على قوله لتعلموا الحساب دخل فيه عدد السنين إذ هو من جملة الحساب؟
قلنا : العدد كله موضوع الحساب كبدن الإنسان فإنه موضوع الطب ، وأفعال المكلفين موضوع الفقه ، وموضوع كل علم مغاير له وليس جزءا منه ، كبدن الإنسان ليس جزءا من الطب ، ولا أفعال المكلفين جزءا من الفقه ؛ فكذا العدد ليس جزءا من الحساب ، وإنما ذكر عدد السنين وقدمه على الحساب ، لأن المقصود الأصلي من محو الليل وجعل آية النهار مبصرة علم عدد الشهور والسنين ، ثم يتفرع من ذلك علم حساب التاريخ وضرب المدد والآجال.
__________________
[٥٧٩] الأخفش : هو أبو الحسن سعيد بن مسعدة البلخي المجاشعي (الأخفش الأوسط). رجّح بعضهم أنه ولد في العقد الثالث من القرن الثاني للهجرة. واختلف في تاريخ وفاته ، فقيل : ٢١٠ ه ، وقيل : ٢١٥ ه ، وقيل : ٢٢١ ه ، وقيل : ٢٢٥ ه. من مؤلفاته : معاني القرآن ، الأوسط في النحو ، المقاييس في النحو ، العروض ، معاني الشعر ، الأصوات ، صفات الغنم وعلاجها وأسنانها ، الخ.