وقال الزمخشري رحمهالله : لا يجوز أن يكون معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا ؛ لأن حذف ما لا دليل عليه في اللفظ غير جائز ، فكيف يقدر حذف ما قام الدليل في اللفظ على نقيضه ؛ وذلك لأن قوله : (فَفَسَقُوا) يدل على أن المأمور به المحذوف هو الفسق وهو كلام مستفيض ، يقال : أمرته فقام وأمرته فقعد وأمرته فقرأ ، لا يفهم منه إلا أن المأمور به القيام والقعود والقراءة ، بخلاف قولهم أمرته فعصاني وأمرته فخالفني ؛ حيث لا يكون المأمور به المحذوف المعصية والمخالفة ؛ لأن ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر وينافيه مأمورا به ، فيكون المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي ، والمتكلم بمثل هذا لا ينوي لأمره مأمورا به ؛ بل كأنه قال : كان مني أمر فلم تكن منه طاعة ، أو كانت منه مخالفة ، كما تقول : مر زيدا يطعك ، وكما تقول : فلان يأمر وينهى ، ويعطي ويمنع ، ويصل ويقطع ، ويضر وينفع ، فإنك لا تنوي مفعولا.
[٥٨٤] فإن قيل : على هذا حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا ، وهذا لا يكون من الله ، فلا يقال يقدر الفسق محذوفا ولا مأمورا به.
قلنا : الفسق المحذوف المقدر مجاز عن إترافهم وصب النعم عليهم صبا أفضى بهم إلى جعلها ذريعة إلى المعاصي ووسيلة إلى اتباع الشهوات ، فكأنهم أمروا بذلك لما كان السبب في وجوده الإتراف وفتح باب النعم.
[٥٨٥] فإن قيل : لم لا يكون ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء ، وإنما يأمر بالطاعة والعدل والخير دليلا على أن المراد أمرناهم بالطاعة ففسقوا.
قلنا : لو جاز مثل هذا الإضمار والتقدير لكان المتكلم مريدا من مخاطبه علم الغيب ؛ لأنّه أضمر ما لا دلالة عليه في اللفظ بل أبلغ ؛ لأنّه أضمر في اللفظ ما يناقضه وينافيه ، وهو قوله : (فَفَسَقُوا) ؛ فكأنه أظهر شيئا وادعى إضمار نقيضه ، فكان صرف الأمر إلى ما ذكرنا من المجاز هو الوجه. هذا كله كلام الزمخشري ، ولا أعلم أحدا من أئمة التفسير صار إليه غيره ؛ ثم إنه أيّده فقال : ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالة ما بعده تقول : لو شاء فلان لأحسن إليك ، ولو شاء لأساء إليك ، تريد لو شاء الإحسان لأحسن ولو شاء الإساءة إليك لأساء ، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وتعني ولو شاء الإساءة لأحسن إليك ، ولو شاء الإحسان لأساء إليك ، وتقول قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان دائما ومن أهل الإساءة دائما ، فيترك الظاهر المنطوق به ويضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم تكن على سداد.
[٥٨٦] فإن قيل : على الوجه الأول لو كان المضمر المحذوف الأمر بالطاعة. كان مخصوصا بالمترفين ، لأن أمر الله تعالى بالطاعة عام للمترفين وغيرهم.
قلنا : أمر الله بالطاعة وإن كان عاما ، ولكن لما كان صلاح الأمراء والرؤساء