____________________________________
ينقض القول بالعلوّ المكاني وضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض إجماعا ، وأما قول بشر المريسي في حال سجوده سبحان ربّي الأعلى والأسفل ، فهو زندقة وإلحاد في أسمائه تعالى ، ومن الغريب أنه استدلّ على مذهبه الباطل برفع الأيدي في الدعاء إلى السماء (١) ، وهو مردود لأن السماء قبلة الدعاء بمعنى أنها محل نزول الرحمة التي هي سبب أنواع النعمة ، وهو موجب دفع أصناف النقمة ، ولو كان الأمر كما قال هذا القائل في مدعاه الباطل لوقع التوجّه بالوجه إلى السماء ، وقد نهانا الشارع عن ذلك حال الدعاء لئلا يتوهّم أن يكون المدعو في السماء كما يشير إليه قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) (٢). وقوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٣). وقد ذكر الشيخ أبو معين النسفي إمام هذا الفن في التمهيد له من أن المحقّقين قرّروا أن رفع الأيدي إلى السماء في حال الدعاء تعبّد محض ، قال الشارح العلّامة السغناقي : هذا جواب عمّا تمسك به غلاة الروافض واليهود والكرامية ، وجميع المجسّمة في أن الله تعالى على العرش هذا ، وقيل : إن العرش جعل قبلة للقلوب عند الدعاء ، كما جعلت الكعبة قبلة للأبدان في حال الصلاة ، وقد سبق أن هذا مما لا وجه له ، فإنه مأمورا باستقبال القبلة أيضا حال الدعاء وبرفع الأيدي إلى السماء ، وبعدم رفع الوجه إلى جهة العلو ، فالوجه ما قدّمناه مع أن التوجّه الحقيقي إنما يكون بالقلب إلى خالق السماء ، نعم نكتة رفع الأيدي إلى السماء أنها خزائن أرزاق العباد ، كما قال الله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) (٤) الآية. مع أن الإنسان مجبول على الميل إلى التوجّه
__________________
٢ / ٣٩٠ : «وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمذاني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين ، وهو يتكلم في نفي صفة العلو ، ويقول : كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان! فقال الشيخ أبو جعفر : أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قطّ يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال : وبكى! وقال : حيّرني الهمذاني حيّرني الهمذاني!». وانظر الخبر في العلو للذهبي ص ١٨٨ ـ ١٨٩ ، وطبقات السبكي ٥ / ١٩٠.
(١) هذا هو مذهب السلف فيما حكاه الإمام الأشعري في إبانته ص ٩٧ ـ ٩٨. وانظر شرح الطحاوية ٢ / ٣٩٢ ـ ٣٩٤. فإنه قد أتى بأدلة عقلية ونقلية على هذه المسألة ولكن الملا علي القاري منعه تعصّبه الأعمى لمذهبه من تفهّم ما أراده شارح الطحاوية رحمهالله.
(٢) البقرة : ١٨٦.
(٣) البقرة : ١١٥.
(٤) الذاريات : ٢٢.