أمّا الثّاني : فلأنّه بعد ما عرفت آنفا ، من كون الوضع تدريجيّا ، ظهر لك ، أنّ الواضع ليس شخصا واحدا أو أشخاصا معيّنين موجودين في عصر واحد ، حتّى يضبط عمله أو عملهم في التّاريخ ، بل الواضعون كثيرون طول الأعصار والقرون.
أمّا الثّالث : فلأنّه لا واسطة بين الجعلين (التّشريعي والتّكويني) فإن كان الشّيء من الامور الحقيقيّة والأشياء المتأصّلة الّتي لا تدور مدار الاعتبار ، وجودا وعدما وحدوثا وبقاء ، كان أمرا تكوينيّا ، وإلّا كان من الامور الاعتباريّة.
وأمّا الإلهام ، فإن كان بمعنى الهداية الفطريّة التّكوينيّة ، فهي موجودة في جميع الموجودات ، كما يشهد عليه قوله تعالى : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى). (١)
وإن كان بمعني الوحي إلى نبيّ من أنبياءه ، فلم يضبط في التّاريخ ، ولا عين ولا أثر منه فيه ، بل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ)(٢) دليل واضح على عدم نزول الألفاظ عليهم عليهمالسلام من الله ، وعلى أن اللّسان ، كان قبل الإرسال والوحي موجودا.
وكيف كان ، فمسألة الإلهام وإن كانت حقّة ، إلّا أنّها لا تختصّ بباب الوضع ولا بالإنسان.
وأمّا الرّابع : فلأنّ وجود المناسبة بين اللّفظ والمعني ، المجهولة عندنا ، وإن كان ممكنا ثبوتا ، لكن لا دليل عليها إثباتا ، والعلقة الذّاتيّة التّكوينيّة بينهما ، كالملازمة أو العلّيّة ، ممّا عرفت حاله آنفا.
__________________
(١) سورة طه (٢٠) : الآية ٥.
(٢) سورة ابراهيم (١٤) : الآية ٤.