والسمع استيعاب (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩].
وكذلك ميز القرآن بين شهود الأمر بمعنى حضوره وبين رؤيته بالعين ، وهكذا قال : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥] فهناك حضور للشهر في الزمان والمكان ؛ حيث يكون الإنسان مقيما ، ثم استثنيت حالتان ، مقيم مريض ، وغير مقيم مسافر ، ولم يطلب الله في هذه الآية رؤية الشهر ؛ وذلك لأن الشهر لا يرى بالعين وإنما الأهلة ، ورؤية الأهلة كرؤية إبراهيم لها (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) ، والشهور حساب (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) [التوبة : ٣٦] فإن يشهد الإنسان الشهر يعني أن يكون حالّا حين توقيته ، ولا علاقة لذلك برؤية الهلال كما يعتقد الكثيرون» (١).
هذا ما قاله أبو القاسم حاج عن التفريق بين الرؤية والنظر والشهود ، وقد جانبه الصواب ـ أيضا ـ كما جانبه الصواب في التفريق بين اللمس والمس ؛ لأنه بنظرة سريعة في آيات القرآن الكريم نجد أن النظر يعني الرؤية الحسية ـ أيضا ـ وليس مقصورا على الإدراك العقلي كما زعم المؤلف ، والدليل على ذلك قول الله تعالى : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [الأحزاب : ١٩] ، وقد اعترف أبو القاسم حاج نفسه بأن الرسول رأى بعينه المجردة عقول المنافقين كيف تفكر حتى صارت أعينهم تدور كالذي يلفظ آخر أنفاسه (٢).
وأما قصر الرؤية على الحس ، وأن آلتها العين المجردة فقد وردت آيات كثيرة فيها «رأى» بمعنى علم ، منها قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) [الفيل : ١] ترى هل كان النبي صلىاللهعليهوسلم حاضرا في واقعة الفيل مشاهدا لها بأم عينه ، أم أنها أمر غيبي أوحاه الله إليه وعلمه إياه؟
إنه من غير شك أمر غيبي ، والرؤية هنا ليست رؤية حسية ، بل رؤية عقلية وجدانية.
وتحديد الكاتب الشهود بمعنى الحضور حصرا أمر في غاية الغرابة ، ووجه الغرابة أن هناك آيات أتت ليس فيها الشهود بمعنى الحضور ، فما ذا يقول في قول الله تعالى : (شَهِدَ
__________________
(١) العالمية الثنائية (٢ / ٥٤ ، ٥٥).
(٢) ينظر : ابن عاشور : تفسير التحرير والتنوير (الدار التونسية للنشر ، الكتاب الأول) (٣ / ١٨٦).