يراها هو ، ولعلنا ندلل على ذلك بنموذج من تفسيره ، فعند قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] يقول : «سفههم ـ عزوجل ـ بما جعلوا له من الشركاء والأضداد على إقرار منهم أنه خلق السموات والأرض ، ولم يجعلوا له شركاء في خلقهما ، وعلى علم منهم أنه تعلق منافع الأرض بمنافع السماء ، مع بعد ما بينهما ، كيف جعلوا شركاء يشركونهم في العبادة والربوبية».
فهنا يفسر الآية من عند نفسه ، لكنه لا يهمل عرض الآراء حولها ، وما دامت هذه الآراء مقبولة فإنه يعرضها على إطلاقها ، فعند الآية نفسها يقول : «وقوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) قال الحسن : الظلمات والنور : الكفر والإيمان ، وقال غيره من أهل التأويل : الليل والنهار في الحقيقة ما يكشف عما استتر من الأبصار ، أبصار الوجوه وأبصار القلوب ، والظلم ما يستر ويغطي على الأبصار : أبصار الوجوه ، وأبصار القلوب ، فالظلمة تجعل كل شيء مستورا عليه ، والنور يجعل كل شيء كان مستورا ظاهرا باديا عليه ، هذا هو تفسير الظلمة والنور حقيقة» ولأن كلا المعنيين لا ترفضه الآية فنجد الماتريدي لا يتعرض لأي منهما بالنقد أو التحليل ، بل يكتفي بعرضهما ، وهو ما يدل على عدم تعصبه.
لكن الأمر إذا احتاج منه إلى إضاءة فنجده بعد عرض الآراء حول الآية يحلل ويعقب ويوجه وينقد ، ففي الآية التي معنا ، في عجزها والتي بعدها ، يقول الماتريدي : «وقوله عزوجل : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] قيل : يشركون مع ما بيّن لهم ما يدل على وحدانية الرب وربوبيته ، أي : جعلوا كل ما يعبدونه دون الله عديلا لله ، وأثبتوا المعادلة بينه وبين الله تعالى ، وليس لله تعالى عديل ، ولا نديد ، ولا شريك ، ولا ولد ، ولا صاحبة ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وقال الحسن : (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي : يكذبون.
وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي : خلق آدم أبا البشر من طين ، فأما خلق بني آدم من ماء ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] وأخبر الله تعالى أنه خلق آدم من الطين ، وخلق بني آدم سوى عيسى ـ عليهالسلام ـ من النطفة ، وخلق عيسى ـ عليهالسلام ـ لا من الطين ولا من الماء ؛ ليعلموا أنه قادر على إنشاء الخلق لا من شيء ، وأنه لا اختصاص للخلق بشيء ، ولا ينكرون ـ أيضا ـ إنشاء الخلق وإحياءهم وموتهم ؛ وذلك لأنه لا يخلو إما أن صاروا ترابا أو ماء ، أو لا ذا ولا ذا ،