أبي حنيفة تمثل ـ كما هو معروف ـ مدرسة الرأي ، ومعنى هذا القول أن الماتريدي ينتمي إلى مدرسة الرأي.
وأقول : إن كان هذا يصدق على الماتريدي متكلما أو فقيها فلا يمكن أن يصدق عليه مفسرا ؛ إذ إنه في تفسيره لا يمكن أن ينتمي إلى مدرسة الرأي أو مدرسة النقل جميعا ، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين.
وبيان ذلك : أن الماتريدي في تفسيره قد استجمع شرائط مدرسة النقل والعقل ؛ حيث إنه استند في تفسيره على المأثور كما استند على المعقول وهذه سمة بارزة عنده ، ليس في هذا التفسير فقط ، بل في جميع مؤلفاته ، فقد رأى خطأ الوقوف عند حد النقل أو المغالاة في الجانب العقلي ، فالموقف العدل ـ عنده ـ هو التوسط بينهما ، وذكر أن من دواعي استحسان هذا الموقف الوسط هو قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ووسطية الماتريدي قائمة على رد كل ما لا يتفق مع أهل السنة من المعتزلة والمجسمة والمشبهة والحشوية وغيرهم ، وتقرير عقائد أهل السنة في أثناء تفسيره بالأدلة العقلية والنقلية.
وليس موقف الوسط ـ كما يظن ـ توفيقا بين الآراء ، وأنه يخلو من الابتكار ، بل هو قمة الابتكار ؛ لأنه يتطلب معرفة كاملة بأحكام النقل والعقل ؛ فلا بد من معرفة كاملة بالكتاب والسنة ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والأخبار وشروطها ، وهذه هي أحكام النقل ، ولا بد ـ أيضا ـ من معرفة أحكام العقل والنظر والتأويل والاجتهاد وإقامة الأدلة والبراهين.
وإذا تقرر هذا فيجب أن نثبت للماتريدي المفسر بعض الخصائص والسمات التي تجعله مفسرا متميزا ، هذه الخصائص والسمات تتلخص في :
أولا : استقلال الفكر :
كان الماتريدي لا يتعصب لمذهب معين أو رأي معين ، بل يبحث عن الحقيقة ، فلم يكن تابعا لفكر معين ، أو متعصبا أو انفعاليّا ؛ لأنه كان يعلم أن هذه الأمور تصد عن الوصول إلى الحقيقة ، ومن ثم ضمن له ذلك الاستقلالية والحرية والموضوعية في تناول القضايا في تفسيره.
والناظر في تفسيره ـ نظرة إجمالية ـ سوف تظهر له هذه الحقيقة ، فهو في تفسيره لا يعرض أحيانا للمذاهب أو الآراء بل إنه يعرض القضايا ، فيشعر القارئ كأنه يعرضها كما