حتى ذهب ما كان يأمل من الاستنارة بها والانتفاع ، وأعقبه الله تعالى خوف الاحتراق لو دنا منها ، وذهب عنه ما طلب بذلك ـ من شرف الوقود فى الأيام الشاتية ، أو ما يصلح بها ـ من الأغذية بذهاب البصر.
فيكون ذلك معنى قوله : (وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] ، و (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) إذ عوقبوا بالخوف بما قصدوا به الأمن ، والذلّ بما طلبوا به العزّ ، وكذلك مستوقد النار الذاهب نوره ، والله أعلم.
وعلى ذلك قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أى : اختاروا الضلالة لما رجعوا إلى شياطينهم بالهدى الذى قد أظهروه عند المؤمنين.
فيكون تحقيق استهزاء الله بهم ، ومخادعته إياهم فعل أوليائه بهم بما أخبروا من سرائرهم ، وبما حطوا أقدارهم ، وذلوا فى أعينهم ، فأضيف ذلك إلى الله ؛ إذ به فعلوا ، كما أضيفت مخادعتهم المؤمنين إليه ؛ إذ عن دينه خادعوهم. والله أعلم.
وعلى هذا التأويل أمكن أن يخرج قول من زعم : أن الآية نزلت فى الكافرين ، أنهم كانوا يعرفون رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما وجدوا نعته فى التوراة والإنجيل ، أنه (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ...) الآية [الأعراف : ١٥٧] ، وقوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [الفتح : ٢٩] إلى آخر السورة ، وقال عزوجل : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦ ، الأنعام : ٢٠] ، وقوله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].
كانوا كمستوقد النار ، أى : طالب الوقود ليستضيء به ، فلما ظفر به أذهب الله نوره بعد معرفتهم بمنفعة نور النار ، فلم ينتفع به.
فكذلك لما كفروا عند بعث النبى صلىاللهعليهوسلم حسدا من أنفسهم وبغيا ؛ إذ كان من غيرهم ؛ أو خشية منهم على ملكهم ومأكلتهم بعد العلم منهم بعظم المنفعة فيه ، ولا قوة إلا بالله.
وأما فى الآخرة أنهم قصدوا مخادعة المؤمنين ، وموالاتهم فى الظاهر ، ومشاركتهم إياهم فى المنافع نحو المغانم والتوارث والتناكح ، وخالفوهم فى الباطن.
فكذلك الله أشركهم فى المنافع الظاهرة الحاضرة فى الدنيا ، وخالفهم بمنافع دينه فى الباطن الغائب وهى الآخرة ؛ أراهم المشاركة مع المؤمنين فى الدنيا ، وصرفها عنهم فى الآخرة.
فكما أروهم الموافقة فى الظاهر مع المخالفة فى الباطن ، فكذلك مستوقد النار أظهر من نفسه الرغبة فى ضوئها بالإيقاد ، وقد أذهب الله ضوء بصره ؛ فذهب عنه منفعته عند ظنه أنه يصل إليها ، كالمنافقين فى الآخرة ، إذ ظنوا فى الدنيا أنهم شركاؤهم فى الآخرة لو