كانت ؛ ولذلك قالوا : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد : ١٣] ، وقوله : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ...) الآية [النساء : ١٤١ ، الحديد : ١٤] فذلك وجه الاستهزاء بهم ، والمخادعة أنه أشركهم فى أحكام الدنيا وخالفهم فى أحكام الآخرة.
وعلى ذلك اشتراء الضلالة بالهدى ، على معنى اختيارهم ما فيه الهلاك على ما فيه نجاتهم.
وعلى ذلك يخرج تأويل من صرف إلى أهل الكتاب ؛ لأنهم آمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم ؛ إذ آمنوا بكتبهم وقد كان فيها نعته الشريف ، فلما وصلوا إلى منافع الإيمان بالبعث إليهم ، وشاهدوا كفروا به ؛ فعوقبوا بحرمان منافع كتبهم ، وإيمانهم عند معاينة الجزاء كما ردّوا إيمانهم به عند المشاهدة ، والله أعلم.
وروى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنه ضم تأويل هذه الآية والتى تتلوها من قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩] إلى قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١] وذلك ـ والله أعلم ـ أنهم قوم لا يعرفون الله حق المعرفة ؛ فيعبدونه بحق الربوبية له قبلهم ، ولا يؤمنون بالآخرة ؛ فيكون عملهم للعواقب ، ولا يعرفون غير الدنيا ومنافعها ، فجعلوا دينهم وعبادتهم ثمنا لها.
فإذا رأوا فى دين الإسلام الغنائم والسلوة ، رأوا تجارتهم مربحة فاطمأنوا بها ، واجتهدوا بالسعى فيها.
وإذا أصابتهم الشدة والبلايا رأوا تجارتهم مخسرة فصرفوا إلى غير ذلك الدين ؛ فمثلهم مثل المستوقد نارا ؛ إنه يجتهد فى الإيقاد ما دام يطمع فى نور النار ، ومنافع حرها لمصالح الأطعمة ، فإذا ذهب نور بصره أبغض النار بما يخشى من الاحتراق بالدنو منها ، وبما يذهب من منافع خفية إن لم يكن كاستوقد ، كالمنافق فيما استقبله المكروه فى الإسلام تمنى أن لم يكن أسلم قط.
وذلك قوله : (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) [الأحزاب : ٢٠].
وقوله : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) [آل عمران : ١٥٤].
وقوله : (قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) [التوبة : ٥٠].
وقوله : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) [النساء : ٧٢].
وكذلك البرق الذى يضىء يمشى المرء فى ضوئه ، وكذلك المنافق ، إذا رأى خيرا فى الإسلام مشى إليه ، وإذا أظلم عليه قام متحيرا حزينا ؛ ألا يكون اختار السلوك ، والله الموفق.